غوته ... والإسلام




لوحة زيتية قديمة للأديب الألماني جوته



أ.د./ ناصر أحمد سنه.. كاتب وأكاديمي من مصر



"جوته"، والإسلام:"
وإذا الإسلام كان معناه أن لله التسليم، فإننا أجمعين نحيا ونموت مسلمين". لعل اهتمام "جوته" البالغ بالإسلام والقرآن الكريم، وبسيرة الرسول صلي الله عليه وسلم (569-632م) "ظاهرة من أكثر الظواهر مدعاة للدهشة في حياة الشاعر" (11). فقد وصف القرآن بأنه "كتاب الكتب.. أيها القرآن الكريم، أيتها الطمأنينة الخالدة"، وكانت معرفته به ـ بعد الكتاب المقدس ـ من أوثق معارفه. وتراه يعلن علي الملأ في سن السبعين عن تفكيره: "في الاحتفال، في خشوع، بتلك الليلة المقدسة التي نزل فيها القرآن الكريم (ليلة القدر)". وهو يصف الرسول ـ كونه هادياً للبشرـ بأنه "النهر العظيم الذي يتدفق رفيقا هادئا، يجري معه الجداول والسواقي في طريقه إلي البحر". كما تضمنت "تراجيديا محمد" ثناءً ومديحاً عظيمين ـ لم يسبق ـ بحسب كاتارينا (12) ـ لشاعر ألماني في أي عصر من العصور أن قدمها لنبي الإسلام". بل إن الدهشة لتزداد عندما نقرأ العبارة التي كتبها في إعلانه عن صدور "الديوان الشرقي" (1814-1820).
وقال فيها إنه: "لا يكره أن يقال عنه إنه مسلم"(13)، وإنه وإن بلغ السابعة والسبعين من عمره، لم يتراخَ إعجابه بالإسلام أبداً، بل كان يتعاظم ويشتد رسوخه" (14).
بدأت علاقة "جوته" القوية بمعاني وروح القرآن الكريم، من خلال لقائه مع "هيردر" بمدينة ستراسبورج شتاء عام 1770م/1771م. ولقد قام "جوته" بالغوص في مؤلفات صدرت عن الإسلام.. عقيدة وشريعة وتاريخاً وسيراً، قام بها مستشرقون ومفكرون غربيون منها: "الترجمة الألمانية لمعاني للقرآن الكريم" التي أنجزها "ديفيد فريدريش ميجيرلين" عام 1771م، (وكان له عليها ملاحظات وتحفظات)، و"المعجم التاريخي" لـ"بيير بايل"، و"المكتبة الشرقية" لـ"بارتيليمي داربيلو"، و"الديانة المحمدية" للمستشرق الهولندي "هارديان ريلاند"، و"حياة محمد" الذي نشر بعد وفاة صاحبه "هنري كونت بولنفيلييه"، و"كنوز الشرق" "للمستشرق النمساوي "يوسف فون هايمر"(15). وكان احتكاكه بالمسلمين أمراً أضاف إلى رصيد محبته للقرآن. فتعرفه على مجموعة من الضباط البشكيك المسلمين، الذين قدموا إلى فايمر في ديسمبر 1813م من ضمن الجيش الروسي المتحالف آنذاك مع ألمانيا، ضاعف من حبه لما قرأه،، حيث وصفهم قائلاً: "لديهم هيبة خاصة"؛ و"هم ضيوف أحباء".


تأثره البالغ بالقرآن الكريم
لاحظت الباحثة "كاتارينا" انتصاف مقاطع "جوته" الشعرية ما بين الاقتباس القرآني، وما بين كلامه هو؛ وهو ما ظهر جلياً في "ديوان الغرب والشرق"Westlisher Divan. ومن أكثر ما تأثر به "جوته" "الدعاء" في الآيات الكريمات:"قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي"(طه:25-28).
وكان "جوته" في كثير من مؤلفاته يدون بخط يده آيات كريمات تشير صراحة إلى النبي محمد، مثل قوله تعالى : "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" (آل عمران: 144).
ولقد أورد بعض أسماء الله الحسني في الديوان الشرقي. ومن أكثر ما لفت انتباه "جوته" جوهر الإسلام وحقيقته بـ "الاستسلام" لله تعالي، وعقيدة التوحيد. تلك العقيدة التي تدعو إلى الانقياد لله الواحد، ومن ثم تدعو إلى "تحرر" الإنسان من كل صنوف العبودية الدنيوية، فنراه "يتفاعل وينفعل" بقصة "إبراهيم عليه السلام" في بحثه ـ بين النجوم والأقمارـ عن "خالق هذا الكون" الجدير بالعبادة، إلى أن يصل إلى حقيقة التوحيد، كما وردت في الايات (75-79) من سورة الأنعام: "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ". يقول "جوته": ارتفع أيها القلب العامر بالحب إلى خالقك، كن أنت مولاي، كن إلهي أنت يا من تحب الخلق أجمعين. يا من خلقتني، وخلقت الشمس والقمر، والنجوم والأرض والسماء. ومتأثراً بقول الله تعالي :"بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة:112)، يستلهم ذلك المعني في (الديوان) فيقول: يا لحماقة البشر عندما ، يصر كل منا على رأيه. وإذا الإسلام كان معناه أن لله التسليم، فإننا أجمعين نحيا ونموت مسلمين"(16). وثمة تأثير للآيتين الكريمتين، من سورة البقرة، فنراه يستلهم الآية: "وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة: 115)، والثانية: "سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (البقرة:142)، فيقول الشاعر: "لله المشرق، لله المغرب، والأرض شمالاً ، والأرض جنوباً تسكن آمنة مستقرة بين يديه"(17).
وتطبيقاً لهذا "الإستسلام للمشيئة الإلهية"، و"انبهارا" بأسس التربية الإسلامية التي تمزج بين الشجاعة وبين هذا الاستسلام للمشيئة الإلهية، فقد استقبال موت صديقه "كارل أوجوست"، ومرض أخته غير الشقيقة بالرضا والهدوء. ولا غرابة أن تجد في القصيدة التي استهل بها ديوانه الشرقي عامة، ومقطوعة "كتاب المغنّي" خاصة، وعنوانها "هجرة"، إعرابه عن رغبته في أن (يهاجر كما هاجر النبي محمد من مكة إلى المدينة عام 622 م). ففي المقطع الأول من هذه القصيدة يهاجر/ يتواجد فكرياً في مكان آخر بعيداً عن هذه البيئة المدمرة المغني (الذي ليس في حقيقة أمره سوى الشاعر نفسه) إلى "الشرق الطاهر الصافي": "إلى هناك،حيث الطهر والحق والصفاء. أود أن أقود الأجناس البشرية، وأنفذ بها في أعماق الأصل السحيق. حيث كانت تتلقى من لدن الرب، وحي السماء بلغة الأرض". ويقول أيضاً: "الشمال والجنوب أقطارها تتصدع وعروضها تزول، وممالكها تنار، فلتهاجر إذن أنت إلى المشرق الطهور الصافي، كي تستروح نسيم الآباء الأولين، هناك حيث الحبُ والشرب والغناء، سيعيدك ينبوع الخضر شاباً من جديد، إلى هنالك ، حيث الطهرُ والحق والصفاء". فجوته، يحس بغرابة الواقع الذي يعيش فيه، وبأنه هو نفسه، غريب، وكأنه يريد أن يشبه نفسه بالفتية "أصحاب الكهف":" وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا، وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا" (الكهف:17-18)، حين عادت إليهم الحياة، فالغرب مضطرب، ولا مفر من الهجرة إلى الشرق منبع الحب والطهر والحق والصفاء، ولا بد من الهرب، من الجحيم إلى الجنة. كما تستحضر النظرة الحالمة إلى الشرق، التي صورتها حكايات "ألف ليلة وليلة".


إعجابه وتأثره بالرسول مُحمد صلي الله عليه وسلم
أبدي "جوته" إعجابا فائقاُ بالرسول مُحمد صلي الله عليه وسلم، لكونه مزج بين عدة أمور: أسس الدين الإسلامي، ورفع مبدأ التوحيد عالياً، وربي البشر.. إيمانياً وروحياً وحياتياً، واستخدم في توصيل رسالته ودعوته وسائل كفاح دنيوية،وجاء بأفكار جديدة لنشر روح المساواة والإخاء في العالم". لذا فقد نظر إليه "جوته" كـ "نموذجاً حياً للإنسان المكافح المُصابر الذي تعامل مع الدنيا وليس مع السماء فقط". فمن بين ما قرأ جوته عن النبي كتاب أولسنر Olsner عن السيرة النبوية، فنظم قصيدة تحت عنوان "تحدي الأنبياء" تستلهم فقرات من ذاك الكتاب عن المضايقات التي عاناها الرسول الكريم من مشركي قريش، وتتمثل معنى الآية الكريمة: "مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ" (الحج: 15)، وقد ظن جوته- ربما نتيجة الترجمة- أنها حديث، فقال: النبي يقول: "إذا اغتاظ أحد من أن الله قد شاء، أن ينعم على محمد بالرعاية والهناء. فليثبت حبلا غليظا بأقوى عارضة في قاعة بيته، وليربط نفسه فيه، فسوف يحمله ويكفيه.
ويشعر بأن غيظه قد ذهب ولن يعود". وهو يستهل الشاعر مسرحيته الشعرية "تراجيديا محمد" (في فصلين: الأول عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، أما الثاني فصور معاناة الرسول أثناء تبليغه الرسالة وما لاقاه من المشركين) بمنظر للنبي وهو يقف تحت قبة السماء المرصعة بالنجوم قائلا: "ليس بمقدوري أن أفضي إليكم بهذا الإحساس، ليس في مقدوري أن أشعركم بهذا الشعور.
من يصيخ السمع لضراعتي؟. من ينظر للعين المبتهلة؟
". كان النبي مُحمد من الشخصيات المحورية التي أوردها "جوته" في "ديوان الغرب والشرق". وكانت أغنيته "بعثة مُحمد" من الأغاني المهمة التي كتبها قبل موته، ومن ثم لم يستطع إصدارها. إلا أنه تم العثور عليها بعد 88 عاماً من وفاته، على يد "رايندرماريا رايكليه" التي أخرجتها إلى النور في عام 1907م. يقول في أبيات "بعثة محمد": "حينما كان يتأمل في الملكوت، جاءه الملاك على عجل. جاء مباشرة بصوت عالٍ ومعه النور. اضطرب الذي كان يعمل تاجراً، فهو لم يقرأ من قبل – وقراءة كلمة تعني الكثير بالنسبة له. لكن الملاك أشار إليه، وأمره بقراءة ما هو مكتوب. ولم يبال وأمره ثانية: اقرأ، فقرأ، لدرجة أن الملاك انحنى، واستطاع القراءة، واستمع الأمر وبدأ طريقه". ونري "جوته" يعرب عن إعجابه الشديد بصفة "الأمية" في شخص الرسول الكريم، معتبرا إياها معجزة ناطقة، فاهتم كثيرا بالآية الكريمة:" وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ" (العنكبوت: 48). نراه يستلهم قوله تعالى: "وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ" (العنكبوت:50)، والآية: "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ" (الرعد:7).
ليقول: "لستُ قادرا على تحقيق المعجزات، هكذا قال النبي. إن أعظم معجزة هي أنني موجود". وفي "نشيد محمد" يعبر "جوته" عن مدى الإحترام الذي يكنه لشخصية الرسول، فتصوره القصيدة : كنهر بدأ يتدفق رقيقا هادئا، ثم لا يلبث أن يجيش بشكل مطرد، فيتحول في عنفوانه إلى سيل عارم يجذب إليه جميع الجداول والأنهار المجاورة. وتصور اتساع هذا النهر وتعاظم قوته الروحية في زحفها الظاهر الرائع لتصب أخيرا في بحر المحيط، "بحر الألوهية العظيم". وذلك في شكل حوار بين "علي"، و"فاطمة" رضي الله عنهما يبدأ كالتالي:
- علي: انظروا إلى السيل العارم القوي، قد انحدر من الجبل الشامخ العلي، أبلج متألقا كأنه الكوكب الدريّ.
- فاطمة: لقد أرضعته من وراء السحاب ملائكة الخير في مهده بين الصخور والأدغال.
- علي: وإنه لينهمر من السحاب مندفعا في عنفوان الشباب، ولا يزال في انحداره علي جلاميد الصخر، يتنزي فائرا، متوثبا نحو السماء، مهللا تهليل الفرح.
- فاطمة: جارفا في طريقه الحصى المجزع الغثاء الأحوى. - (وينتهي الحوار) علي وفاطمة (في صوت واحد): خذنا معك! خذنا معك! (18).


تبجيله آل الرسول وصحبه رضي الله عنهم.
جاء في قصيدة "نساء مصطفيات" تفضيل لأربع نساء من نساء العالمين: زليخا زوجة العزيز، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة الزهراء بنت محمد، يقول بعد أن ذكر الأوليين: "... وزوجة محمد التي أفاضت عليه الحنان وأعانته على تحقيق أروع الأمجاد.
وبعدهن تأتي فاطمة الزهراء، الابنة الطاهرة والزوجة المصون، ذات الروح النقية كملائكة السماء". أما في قصيدته الطويلة "رجال مؤهلون"(19)، فإنه يقر فيها بعظمة الصحابة (رضي الله عنهم)، وأنهم أهل لأعلى عليين: " بعد معركة بدر تحت السماء المرصعة بالنجوم (محمد يتكلم): "ليندب الأعداء قتلاهم، فإنهم من الهالكين. يرقدون بلا عودة ، أما الشهداء من إخواننا فلا تندبوهم. فإنهم أحياء في أعلى عليين. وهم أولاء يقرعون أبواب الجنة، يدخلونها بسلام آمنين..".
و يصفً حوريات الجنة (الحور العين): "وتهب الآن رياح لطيفة من الشرق، يقودها حوريات الجنة، تجد المتعة في النظر إليهن، بالطبع النظرة إليهن كافية"(20).
عرف عن "جوته" ميله نحو التصوف. والتصوُّف في نظره يجمع بين الشِّعر والفلسفة لأنه يتصدّى في الوقت نفسه لأسرار الطبيعة وأسرار العقل معاً.
ومن أقوال جوته في المختارات النثرية ما يأتي: الشِّعر يدلُّ على أسرار الطبيعة، ويحاول حلها عن طريق الكلمة، أما التصوُّف فيدل على أسرار الطبيعة وأسرار العقل، ويحاول حلها عن طريق الكلمة والصورة.
وفي قصيدة تحمل عنوان ''حوار'' يدعو إلى التأمُّل في الطبيعة على هذا النحو: "عليكم في تأمُّلكم للطبيعة، أن تعتبروا الواحد ككل. فلا شيء في الداخل، ولا شيء في الخارج. ما في الداخل هو في الخارج.
هكذا تدركون دون تأخير الأسرار المقدَّسة بوضوح ولتبتهجوا بالضوء الحقيقي واللعب الجاد، فلا حي يُعد واحداً كل واحدٌ يُعد كثرة".
وفي قصيدة (حيوانات محظوظة في "كتاب الفردوس") يرى أن بعض الحيوانات سعيدة الحظ ستدخل الجنة، ومنها حمار المسيح عليه السلام، وكلب أهل الكهف، وناقة محمد ، وقطة أبي هريرة(رضي الله عنه)، لا لشيء إلا لأن النبي الكريم قد مسح بلطف على رأسها كما يروي ذلك المخيال الشعبي: "وها هي ذي هرة أبي هريرة، تموء حول سيدها وتلاطفه: إذ سيبقى حيواناً مقدساً على الدوام، ذلك الذي مسح عليه النبي عليه السلام" (21).
وفي سفر "زليخة" وهو أضخم الاسفار في الديوان نجد العديد من الكلمات العربية مثل: الهدهد والبلبل ويكتبها "جوته" على صورتها العربية فيقول مثلاً: "أسرع، يا هدهد، أسرع إلى الحبيبة، وبشرها بأني، دائمًا لها وأبدًا، ألم تكن في الأيام الخوالي، رسول غرام بين سليمان الحكيم وملكة سبأ؟"(22).
ووحيداً بعد موت زوجته وولده.. توفي "جوته" في 22 مارس 1832م، ودفن في "فايمر"، وكتب على شاهد قبره: "وعلى شاهد قبرك سيقرأ الناس: إنك كنت بحق إنساناً".


هل كان جوته مسلماً؟.
بعد حوالي 177 عاماً على وفاة "جوته"، مازل الجدل مستمراً، والخلاف محتدماً حول "علاقة جوته بالإسلام ً، وهل كان جوته مسلماً؟.
سؤال ظل حائراً شاغلاً لبال الكثيرين؟.
سؤال يستند علي هذا الشغف والتعاطف والإحترام الكبير الذي كنه "جوته" للإسلام وشريعته، والقرآن الكريم وبلاغته، وتماهيه مع لغته الآسرة، وإحترامه للرسول "محمد" صلي الله عليه وسلم وهدايته، وللعربية وآدابها، وإيمانه بوظيفته التاريخية كحلقة وصل بين الشرق والغرب.
كما يستند إلي "سلوكيات" هذا الشاعر الكبير مثل:
* صيامه رمضان مع المسلمين.
* وتردده على أحد المساجد للصلاة فيه .
* كما شوهد يصلي مع بعض الجنود الروس المسلمين .
* وحفظه لآيات عديدة من القرآن الكريم .
* وعقده جلسات في أحد قصور الأمراء لتلاوة القرآن .
* واعتكافه في العشر الأواخر من رمضان .
* وعزمه وهو في سن السبعين علي الاحتفال بتلك الليلة المقدسة التي نزل فيها القرآن الكريم (ليلة القدر) .
* وتقبله التهنئة في الأعياد الإسلامية .
* ورفضه فكرة الصلب المسيحية ، حتى إنه نطق مرتين بالشهادتين في كتاباته ، إلى جانب آلاف الصفحات التي كتبها ممجداً ومادحاً النبي محمداً صلي الله عليه وسلم.

وبينما ينسب المسلمون الألمان "جوته" إليهم، حتي أن جماعة تطلق على نفسها "جماعة فايمر" نسبة إلى مدينة "فايمر" الألمانية أطلقت على "جوته" اسم "محمد" تيمناً باسم رسول الإسلام صلي الله عليه وسلم، تنشط بالمقابل مؤسسات وشخصيات ثقافية ألمانية لنفي هذا النسب عنه، والتشكيك به، ويرون إن هذا النسب هو ضرب من المبالغة.
فعلي الرغم من تلك المواقف، وهذه السلوكيات والإشارات من الشاعر الكبير، والتي تؤكدها "كاتارينا مومزن" في دراساتها عنه .
إلا أنها تقول: "إن إعجاب جوته بالإسلام لا يعني بالضرورة أنه اعتنقه، وتنفي ـ شأنها شأن آخرين كالمستشرقة الألمانية آنا ماري شمايل أن يكون قد تحول إليه"،.
وتنتهي إلي القول: "إن الإجابة على هذا السؤال: هل كان جوته مسلماً؟ ليس أمراً سهلاً يمكن الإجابة عليه بنعم أو لا".



خلاصة القول
منذ القرن الثامن عشر.. وارتقاءً بالمعارف المُنصفة، ومن خلال "ديوانه" شرع "جوته" طريقاً للحوار، وأسس لتعارف رائع بين الشرق والغرب.
وعبر هذا الطريق ظهرت فلسفته التي صهرت تفاصيل الشرق في قصائد وتلاوات شعرية نفيسة، هي نبراس لكل بصيرة محبة للتعارف، معترفة بالتنوع، متجاوزة الفروق البشرية، مرتفعة إلي آفاق النضوج المتسامح، ومُصححة للصور الذهنية المعتلة.. قصائد، هي المعبر الآمن بين أضاد الشرق والغرب! إنهم أفراد معدودين الذين استطاعوا أن يرتفعوا بأنفسهم إلى مواقف منصفة وعادلة.
فالقلّة النادرة من المفكرين والكتّاب الناطقين بلسان العصر هم الذين يسعون إلى التغلب على ضيق أفق أبناء جلدتهم، ويحاولون تنوير عقولهم بغية تهذيب أساليب التفكير والفهم. علي أية حال مهما يكن من أمر "إذا كان جوته قد "اعتناق الإسلام أم لا" ستظل له مكانته ..عالمياً وعربياً.
فهو صديق عشقَ الشرق والعرب، وأحب الإسلام، وترك أثراً إيجابياً كبيراً في المستشرقين الألمان. إن العالم الآن في أمس الحاجة إلى أمثال جوته؛ يحترمون الاختلاف والتنوع، ويخطون حدود التفكير المحليم الإستعلائي الضيق، ويحتكون بالآخر ويدرسونه، ولا يصدرون احكاماً نمطية عليه، ويدركون قيمة التعارف كونها سُنة من سنن الخلق والوجود. وياخذون كما أخذ جوته على عاتقه، وبوصفه شاعراً ألمانياً، تقريب ثقافة الآخر إلى أبناء جلدتهم.