بسم الله الرحمن الرحيم
ذات يوم .. كنّا أنا وصديق لي نركب سيارة للاُجرة .. وكان السائق قد وضع مصحفاً صغيراً مفتوحاً في مقدّمة سيارته ، كما يفعل الكثير من السائقين من أجل السلامة . وكانت التفاتة جميلة من صديقي أن يحاور السائق في شأن المصحف المفتوح .
قال صديقي : يبدو أ نّك تحبّ القرآن وتحترمه ، وإلاّ ما كنت وضعته في سيارتك ؟!
قال السائق : نعم ، أحترمه وأقدِّسه ، ولكنّني أضعه للتبرّك والحفظ من الأخطار .
قال صديقي : هل تقرأه ؟
قال السائق : لا .
قال صديقي : لو كان لديك قنينة من عسل مصفّى موضوعة على الرفّ .. هل كنتَ تتركها هـكذا من دون أن تتذوّقها ، وفي العسل علاوة على حلاوته شفاء ؟!
قال السائق : بالتأكيد كنتُ أفعل ، وإلاّ لِمَ اشتريته في الأصل ؟
قال صديقي : وهكذا القـرآن .. عسلٌ مصـفّى . لكنّك تركتـه على رفّ السيارة كمن يترك قارورة العسل على رفّ المطبخ .. لِمَ لا تجرّب أن تتذوّقه ؟!
التقط السائق الاشارة ، فابتسم قائلاً : سأفعل بإذن الله !
ثمّ سرحت مع كلمات صديقي ، وأنا أتأمّل خضرة الربيع الطافحة في كلّ مكان .. تذكّرت الذين يهملون قوارير العسل القرآني مهملة على رفوف بيوتهم وسياراتهم ومكتباتهم من دون أن يجرّبوا تذوّق طعمه ، ولو أ نّهم جرّبوا لما عدلوا عنه إلى غيره .
إنّه عسل ليس كسائر العسل الذي سرعان ما يزول طعمه بمجرّد زواله من اللسان .. فحلاوة العسل القرآني لا تفارق لسان العقل ولسان القلب ولسان الروح أبداً .
وهذه دعوة لكما ـ أ يُّها الشاب المسلم والفتاة المسلمة ـ في أن نفتح قوارير هذا الشهد لنتذوّقه .. أو لنتعلّم كيف نتذوّقه ؟!
سنحاول الإجابة عن عدّة أسئلة حيويّة ، من الضروري لأبناء القرآن ، وأنتم منهم ، الاطّلاع عليها :
ـ كيف وصفَ القرآنُ نفسـه ؟ وماذا نستفيد من تلك الأوصاف ؟
ـ أولى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة من أهل بيته (عليهم السلام) القرآن ما يستحق من اهتمام وعناية ، فكيف وصفوه ؟ وكيف تعاملوا معه ؟
ـ علّمنا القرآنُ نفسه الأساليب التي نتعامل معه من خلالها ، فما هي طرق التعامل مع القرآن من خلال القرآن ؟
ـ كثيرون هم الذين يقصّرون ويهملون القرآن ، فكيف انتقد القرآن المقصّرين في التعامل معه ؟ وهل نحن منهم ؟
ـ القرآن كتاب للحياة كلّها ، فكيف يمكن أن تجعل القرآن يجري في حياتك ؟ ما هي أفضل أساليب التعامل معه بالنسبة لنا كشباب ؟
ـ وكما أنّ لكلّ شيء حقّاً ، فإنّ لكتابنا الأوّل حقوقاً علينا ، فكيف نؤدِّي حقّ القرآن ؟
ـ القرآن مدرسة .. فكيف يمكن لي كشاب أو كفتاة أن أدخل هذه المدرسة لأبني شخصيتي على أساس القرآن ؟
كيف وصف القرآن نفسه ؟ وماذا يمكن أن نسـتفيد من هذه الأوصاف ؟
لقد قدّم القرآن نفسه إلينا ، وعرّفنا مكانته ودوره في حياتنا ، بتعبيرات شتّى .. هي ليست مجرّد أسماء لمسمّى واحد . وإنّما هي أوصاف تدلّ على معان وأبعاد مختلفة ، أي أنّ كلّ اسم من أسماء القرآن لفتة نظر إلى حقيقة معيّنة .
فالقرآن (نور ) يبدِّد الظلمات التي تخيّم على القلـب ، فيُضيء عواطفه ، والتي تتراكم على العقل فيفتح أفكاره ، وتحيط بالروح ، فينعش أشواقها ، وتحدق بالحياة ، فيكشف لنا طريق حركتنا فيها . (قد جاءكُم مِن الله نور وكتاب مُبين )(1) .
والقرآن (بصائر) والبصيرة هي الوعي .. أو العين الداخلية التي نرى بها الحقّ والخير فنتبعهما ، والباطل والشرّ فنجتنبهما ، فهي كما العين الخارجية تحتاج إلى نور تبصر به .. والقرآن هو نور البصيرة . (هذا بصائر للنّاس وهدىً ورحمة لقوم يوقنون )(2) .
والقرآن (هداية) إلى الطريق الصحيح بعد ضياع وابتعاد عنه ، ولا يمكن لأحدنا أن يهتدي إلى شيء في العتمة .. هل جرّبتَ أن ترى الأشياء بعد انقطاع الكهرباء وانطفاء النور ؟ (ذلك الكتاب لا ريب فيه هُدىً للمتّقين )(3) .
إنّ نور القرآن هو الذي يهدينا إلى الصراط المستقيم ، فنرى الأشياء واضحة من خلاله .
والقرآن (بيِّنات) وهي عكس الغامضات المبهمات ، فالبيِّن هو الشيء الواضح الجليّ ، والوضوح لا يكون في ظلام ، فحتّى يكون الشيء واضحاً لابدّ أن يكون في النور أو تحت النور ، ولذلك كانت آيات القرآن كلّها بيِّنات ، لأ نّها مستنيرة بنوره ، مضيئة لنا دروب الحياة .
والقرآن (شفاء) وهل تحتاج إلى الشفاء إلاّ إذا كنت تعاني المرض؟
فالقرآن شفاء لما في الصدور من غلّ وحقد وحسد وبغضاء وتعال وتحامل وعصبية وتجنٍّ ، ولما في الحياة التي نحياها من غشّ وسرقة وزنا وربا وعدوان وشرور أخرى . وبذلك ففي القرآن صحّتنا وعافيتنا وسلامتنا الفردية والاجتماعية . (قد جاءتكم موعظة من ربّكم وشفاء لما في الصُّدور )(4) .
والقرآن (رحمة) فهو باب واسع ندخلـه إذا أغلقت بوجوهـنا الأبواب، وظلّ ظليل نلتجئ إليه إذا لفحنا الهجير.. وحنان غامر إذا ضاقت بنا الصدور والنفوس ، فالرّحمة هي ألطافٌ ظاهرةٌ وخفيّة ، ونعمٌ باطنة وظاهرة . (قد جاءكم بيِّنة من ربِّكم وهدىً ورحمة )(5).
والقرآن (تثبيت) فالتحديات العاتية والصعوبات الجمّة والنكبات الفظيعة والعنت الشديد ، والاضطهاد المرير ، والزلازل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية التي نتعرّض لها ، تحتاج إلى مصل التماسك حتى لا يتصدّع كياننا أو ينهار . (كذلك لنثبِّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلا )(6) .
والقرآن (ذكر) والذكر يقابل الغفلة .. والغفلة شرود وسهو ولهو وانصراف عن منابع النور والرحمة والهداية ، أمّا الذكر فهو أشبه شيء بإرجاع السيارة التي تخرج عن الطريق إلى الطريق ، فإذا غفل عنها السائق قادته إلى المخاطر التي قد تودي بحياته .
فالذكر هو يقظةُ العقل وصحوةُ القلب وانتباهةُ الروح ، أي أنّ القرآن يذكّرنا دائماً أنّ هناك ربّاً يرعى ، ويرحم، ويشاهد، ويسدِّد ، ويؤيِّد ، ويثيب ويعاقب ، ويأخذ بأيدينا إلى سبل السلام والخير والسعادة . (إن هو إلاّ ذكر للعالمين )(7) .
والقرآن (ذكرى) والذكرى عكس النسيان ، فكثيراً ما ننسى أو يُنسينا الشيطانُ ، ربّنا ، وديننا ، ومسؤوليتنا ، والغاية من خلقنا ، وتعاليم دستورنا ، فتأتي آياتُ القرآن الكريم لتذكّرنا ذلك كلّه . (هدى وذكرى لاُولي الألباب )(8) .
إنّك إذا انقطعت عن صديق عزيز ، فلا تتصل به هاتفياً ، ولا تراسله بريدياً ، ولا تسترجع ذكرياتك معه ، فإنّه شيئاً فشيئاً سوف يخرج من ذاكرتك وربّما من حياتك أيضاً ، وكذلك القرآن ، فهو ذكرى للذاكرين ، وإلاّ انفصل عن حياتهم وانفصلوا عنه .
والقرآن (موعظة) بل هو أحسن المـواعظ على الاطلاق ، فلا يجد باحث عن الموعظة البليغة أبلغ منه .. يعظنا في الأمم التي سلفت .. وفي الموت الذي سنتجرّع كأسه كلنّا بلا استثناء ، وفي الدنيا التي هي متاع قليل ودار لهو وغرور . (هذا بيان للنّاس وهدىً وموعظة للمتّقين )(9) .
والقرآن (تبيان لكلّ شيء) أي الجامـع لكلّ شيء ، المانع من الحاجة إلى غيره ، فهو النبع الذي يرده كلّ عطاشى العلم والأخلاق والمعرفة .. فيه القضايا الأساسية واُمّهات المسائل الكبرى ، ولو لم يكن كافياً لاحتجنا إلى كتاب آخر . (ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء )(10) .
والقرآن (تصريف للأمثال) .. والمثل حالة شبيهة بحالة أخرى ، ويُضرب للاعتبار وأخذ الدرس ، فكما عاش الأوائل تجاربهم في ضوء ما أراد الله منهم وابتعدوا عمّا نهاهم عنه ، فإنّ لنا في تلك التجارب دروساً وعبراً، وهذا هو السبب الذي يجعل القرآن يسرد علينا قصص الماضين ، ويدعونا إلى التأمّل في آثارهم ومآلهم . (ولقد صرّفنا في هذا القرآن للنّاس من كلِّ مثل )(11) .
والقرآن (فرقان) أي معيار نميِّز به الحقّ من الباطل ، والخير من الشرّ ، والعدل من الظلم ، والشقاء من السعادة ، والعلم من الجهل ، والقوّة من الضعف ، والصدق من الكذب ، والنجاة من الهلاك . (تبارك الّذي نزّل الفُرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً )(12) .
ولو لم يفرّق القـرآن بين النور وبين الظلام لالتبست علينا الأمور ، فربّما كنّا نرى النـور ظلمة والظلمة نوراً ، كما هو شأن الكثيرين من الناس .
وهو فوق هذا وذاك (بشرى) للمسلمين.. وللمؤمنين بما وعدهم الله وأعدّ لهم من ثواب عظيم ونعيم مقيم . (وبشرى للمسلمين )(13) .
هذه هي بعض خصائص القرآن ، تعرّفنا عليها من خلال القرآن نفسه ، فماذا نستفيد من هذه الخصائص والأوصاف ؟
ـ كلّ صفة من صفات الكتاب الكريم عامل من عوامل الجذب والإغراء والتشجيع على الدخول إلى عالم القرآن ، بل عوالمه الكثيرة والمنيرة ، ومعرفة ماذا هناك ؟!
ـ إنّ تنوّع وتعدّد صفات القرآن وأسمائه إشارة إلى أنّ جمالات وكمالات القرآن كثيرة ، فهو ليس شفاء وحده ، ولا رحمة وحدها، بل هو كلّ ما وصف به نفسه ، ممّا يستدعي اغتنام واستثمار فوائده كلّها .
ـ إنّ علاقة المسـلمين الطويلة مع كتابهم الأوّل (القرآن) أثبتت أنّ كلّ صفة من هذه الصفات مؤكّدة وموثّقة بآلاف بل ملايين التجارب الفردية والاجتماعية ، وحينما يتأكّد شيء ويتعمّق بالتجربة فذلك أكبر برهان على صدقه . وبإمكاننا نحن أيضاً أن نجرّب ذلك بأنفسنا من خلال بناء علاقة حميمة مع القرآن
منقول من البريد