لله و الصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد و على آله وصحبه و سلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين ، ثم أما بعد
روى البخاري في صحيحه في كتاب الفتن باب خروج النار ، و مسلم في كتاب الفتن باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى يُحْسَر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه ، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون ، فيقول كل رجل منهم : لعلي أكون أنا أنجو .
و في رواية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً و عن عبد الله بن الحارث بن نوفل رضي الله عنه قال : كنت واقفاً مع أبيّ بن كعب ، فقال : لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا ؟ قلت : أجل ، قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يوشك الفرات أن ينحسر عن جبل من ذهب ، فإذا سمع به الناس ساروا إليه ، فيقول من عنده : لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله ، قال : فيقتتلون عليه ، فيقتل من كل مائة تسعة و تسعون .رواه مسلم .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تذهب الدنيا حتى ينجلي فراتكم عن جزيرة من ذهب ، فيقتتلون عليه ، فيقتل من كل مائة تسعة و تسعون . رواه حنبل بن إسحاق .
شرح الحديث :-
أولاً : تعريف نهر الفرات
هو بالضم ثم التخفيف ، و آخره تاء مثناة من فوق ، والفرات في أصل كلام العرب أعذب المياه ، و مخرج الفرات فيما زعموا من أرمينية ثم من قاليقلا قرب خلاط و يدور بتلك الجبال حتى يدخل أرض الروم إلى ملطية ، و يصب فيها أنهاراً صغار ، ثم يمر بالرقة ثم يصير أنهاراً لتسقي زروع السواد بالعراق و يلتقي بدجلة قرب واسط ، فيصيران نهراً واحداً عظيماً يصب – الخليج العربي
: ثانياً : الكلام على المعنى الإجمالي للحديث
يقول الإمام النووي – رحمه الله - في معنى انحسار الفرات : ومعنى انحساره ، انكشافه لذهاب مائه ، وقد يكون بسبب تحول مجراه ، فإن هذا الكنز أو هذا الجبل مطمور بالتراب ، و هو غير معروف ، فإذا ما تحول مجرى النهر لسبب من الأسباب ، و مر قريباً من هذا الجبل كشفه ، و الله أعلم بالصواب
أما معنى أن يقتتل عليه الناس فيقتل من كل مائة تسعة و تسعون و لا ينجو إلا واحد ، الظاهر من معنى هذا الحديث أن القتال يقع بين المسلمين أنفسهم ، لأن قتال المسلمين مع أعدائهم من يهود ونصارى وغيرهم يسمى ملاحم
ثالثاً : بيان زمن حدوث ذلك
و قد اختلف الأئمة في تحديد زمن حدوث ذلك ، فذهب الإمام البخاري إلى أنه يقع مع خروج النار ، و يظهر ذلك من صنيعه – أي من صنيع الإمام البخاري - ، إذ أدخل حديث حسر الفرات تحت باب خروج النار ، و أورد حديث أبي هريرة و حارثة بن وهب – و لفظ حديث حارثة هو : تصدقوا ، فسيأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته ، فيقول الذي يأتيه بها : لو جئت بها بالأمس ؛ لقبلتها فأما الآن فلا حاجة لي بها فلا يجد من يقبلها – عقب الباب المذكور مباشرة تحت باب لم يترجم له بشيء ، مما يدل على أنه متعلق به ، فهو كالفصل منه ، و من ثم يؤخذ السبب في عدم قبول الناس ما يعرض عليهم من الأموال ، و كذلك سبب النهي عن أخذ شيء مما يحسر عنه الفرات ، و هو انشغالهم بأمر الحشر ، بحيث لا يلتفت أحد منهم إلى المال بل يقصد أن يتخفف منه ما استطاع . الفتح
و ذهب الحليمي في المنهاج في شعب الإيمان إلى أنه يقع في زمن عيسى بن مريم عليهما السلام ، فإنه ذكر حديث حسر الفرات ثم قال : فيشبه أن يكون هذا الزمان الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المال يفيض فيه فلا يقبله أحد ، و ذلك في زمان عيسى عليه السلام ، و لعل سبب هذا الفيض العظيم ذلك الجبل مع ما يغنمه المسلمون من أموال المشركين ، والله أعلم
و هناك حديث يؤيد هذا القول ، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعاً ، و فيه : والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً .. .. إلى أن قال : و يفيض المال حتى لا يقبله أحد . البخاري كتاب الأنبياء
أما بن حجر فإنه لم يحدد لحديث حسر الفرات عن جبل من ذهب زمنا معينا ، لكنه ذكر ما ذهب إليه البخاري من أنه يقع عند الحشر ، و ذلك أثناء تعرضه لبيان الحكمة التي لأجلها نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأخذ منه ، و قد عد ذلك – أي حسر الفرات عن جبل من ذهب – صاحب الإشاعة ، من الأمارات التي تدل على قرب خروج المهدي . الإشاعة ، و الذي دفعه إلى القول بذلك ما رواه بن ماجة من حديث ثوبان مرفوعاً : يقتتل عند كنزكم ثلاثة ، كلهم بن خليفة . ثم ذكر الحديث في المهدي ، فإن كان المراد بالكنز الذي في حديث أبي هريرة ، دل على أنه إنما يقع عند ظهور المهدي قبل نزول عيسى و خروج النار ، و لكن ليس هناك ما يعين ذلك . الفتح 1.
رابعاً : سبب النهي عن أخذ شيء منه
أما الحكمة التي لأجلها ورد النهي عن الأخذ من ذلك الجبل الذي يحسر عنه الفرات ، فقد ذكر العلماء في بيان الحكمة من ذلك عدة أسباب :-
أن النهي لتقارب الأمر و ظهور أشراطه ، فإن الركون إلى الدنيا
والاستكثار منها مع ذلك جهل واغترار .
أن النهي عن أخذه لما ينشا عنه من الفتنة والاقتتال عليه .
لأنه لا يجري به مجرى المعدن ، فإذا أخذه أحدهم ثم لم يجد من يخرج حق
الله إليه لم يوفق بالبركة من الله تعالى فيه ، فكان الانقباض عنه أولى . ذكره الحليمي احتمالاً في المنهاج
إنما نهى عن الأخذ منه أنه للمسلمين فلا يؤخذ إلا بحقه ، ذكره بن التين ، وقال كما حكى عنه الحافظ ابن حجر : و من أخذه و كثر المال ندم لأخذه ما لا ينفعه ، و إذا ظهر جبل من ذهب ، كَسَدَ الذهب ، و يبدو أن الإمام البخاري ذهب إلى اختيار القول الأول ، إذ أورد هذا الحديث تحت باب خروج النار مما يوحي بأنه يرى أن النهي عن الأخذ ورد لأنه عند الحشر و مع خروج النار ، وهو وقت انشغال الناس بأمر الحشر ، فإذا أخذ منه أحد لا يستفيد منه سوى الندم .
و ذهب القرطبي إلى اختيار القول الثاني ، و قال : و هو الذي يدل عليه الحديث . التذكرة . كذلك ذهب إلى اختياره الحافظ ابن حجر واستدل بحديث أبيّ بن كعب مرفوعاً : يوشك أن يحسر الفرات عن جبل من ذهب ... ، و ذكر الحديث . و بهذا الحديث أبطل ما ذهب إليه ابن التين ، و قال : إنما يتم ما زعم من الكساد لو اقتسمه الناس بينهم بالتسوية و وسعهم كلهم ، فاستغنوا أجمعين ، فحينئذ تبطل الرغبة فيه ، و أما إذا حواه قوم دون قوم ، فحال من لم يحصل له منه شيء باق على حاله ، و عَقّبَ على القول بأن النهي ورد لكونه يقع مع خروج النار ، فقال : ولا مانع أن يكون عند خروج النار للحشر ، لكن ليس ذلك السبب في النهي عن الأخذ منه والله أعلم
خامساً : شبهة والرد عليها
و ذهب بعض المتأخرين – محمد فهيم أبو عبية في تحقيقه لكتاب الفتن والملاحم لابن كثير - في حسر الفرات ، إلى معناه حسره عن الذهب البترولي الأسود .
الجواب : و ليس المقصود بهذا الجبل من ذهب النفط أو البترول الأسود ، و ذلك من وجوه :-
أن النص جاء فيه – جبل من ذهب – نصاً لا يحتمل التأويل ، والبترول ليس بذهب على الحقيقة فإن الذهب هو المعدن المعروف .
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن ماء النهر ينحسر عن جبل من ذهب ، فيراه الناس ، و النفط أو البترول يستخرج من باطن الأرض بالآلات من مسافات بعيدة .
أن النبي صلى الله عليه وسلم خص الفرات بهذا دون غيره من البحار والأنهار ، والنفط نراه يستخرج من البحار كما يستخرج من الأرض ، و في أماكن كثيرة متعددة .
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الناس سيقتتلون عند هذا الكنز ، و لم يحصل أنهم اقتتلوا عند خروج النفط من الفرات أو غيره ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى من حضر هذا الكنز أن يأخذ منه شيئاً ؛ كما هي الرواية الأخرى عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، ومن حمله على النفط ، فإنه يلزمه على قوله هذا النهي عن الأخذ من النفط ، ولم يقل به أحد . أنظر : إتحاف الجماعة فقد ذكر الشيخ حمود التويجري وجوهاً كثيرة للرد على هذه الشبهة .
اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها و ما بطن ، والحمد لله رب العالمين .
الروابط المفضلة