أول خلق الله اسلاما
خديجة بنت خويلد
رضي الله عنها
الحمد لله، رفع قدر أولي الأقدار، أحمده سبحانه وأشكره على فضله المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده رسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار، من المهاجرين والأنصار :نقتفي أثر خَيرِ نِساءٍ عِشنَ في أفضلِ القرون وتربَّين في أَجلِّ البيوتِ بيتِ النّبوّة، أعلَى الله مَكانتَهن، وأجَلَّ قَدرَهن، ونزَل القرآن بالثّناءِ عَليهنّ، قال عزّ وجلّ: (( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ))، زَوجاتٌ مبارَكات، ونِساء عظيمَات أُولاهنّ المرأة العاقِلَة الحاذِقة ذاتُ الدين والنسب.
خديجة بنت خُويلدٍ رضي الله عنها
نشأت على التخلُّق بالفضائلِ والتحلِّي بالآداب والكرَم، واتَّصفت بالعفّة والشرف، كانت تُدعَى بين نساءِ مكّة بالطاهرة. تزوَّجَها المصطفى فكانت نِعمَ الزوجة له، آوَته بنفسِها ومالها ورجَاحةِ عقلها، وفي أحزانِه عليه الصلاة والسلام كان يأوِي إليها ويبُثّ إليها همومه. نزل عليه الوحيُ أوّلَ نزوله فرجَع إليها يرجُف فؤادُه من هَول ما رأى، وقال لها: (( ما لي يا خديجة؟! لقد خشِيتُ على نفسي ))، فتلقَّته بقَلبٍ ثابت وقالت له: كلاَّ والله، لا يخزيك الله أبدًا. لاحَ الإسلام في دارِها فكانت أوّلَ من آمن من هذه الأمة، قال ابن الأثير رحمه الله: " خديجة أوّلُ خلقِ الله إسلامًا بإجماعِ المسلمين، لم يتقدَّمها رجلٌ ولا امرَأَة ". عظُمَت الشّدائِد على النبيّ في مطلَع دعوتِه، واشتدَّ الإيذاء، فكانت له قلبًا حانيًا ورأيًا ثاقبًا، لا يسمَع من الناسِ شيئًا يكرهه ثم يرجِع إليها إلاّ ثبَّتته وهوَّنت عليه، يقول النبيّ : (( آمنت بي إذ كَفَر بي النّاس، وصدّقتني إذ كذَّبني الناس، وواسَتني بمالها إذ حرَمني الناس، ورزَقني الله ولدَها إذ حرمني أولادَ النساء )). عظيمة بارّةٌ بزوجِها وأمّ حنون، جميع أولادِ النبيّ منها سوَى إبراهيم، أدبُها رفيعٌ وخُلُقها جَمّ، لم تراجِعِ المصطفى يومًا في الكلامِ، ولم تؤذِه في خِصام، يقول النبيّ : (( أتاني جبريل فقال: بشِّرها ببيتٍ في الجنة من قصب ـ أي: لؤلؤ مجوَّف ـ، لا صخَبَ ولا نصَب )). قال السّهيليّ رحمه الله: "إنما بشَّرها ببيتٍ في الجنة لأنها لم ترفَع صوتَها على النبيّ ، ولم تُتعِبه يومًا من الدهر، فلم تصخَب عليه يومًا، ولا آذته أبدًا" كانت راضيَةً مرضيّة عند ربِّها، يقول : (( قال لي جبريل: إذا أتتك خديجة فأقرِئ عليها السلام من ربِّها ومنّي )). قال ابن القيّم رحمه الله: "وهي فضيلةٌ لا تعرَف لامرأةٍ سِواها". أحبَّها الله وأحبَّتها الملائكة وأحبَّها النبيّ ، يقول : (( إنّي رُزِقت حبَّها )). كان إذَا ذكرَها أعلَى شأنَها وشكَر صُحبتَها، تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبيّ إذا ذكَر خديجةَ لم يكن يسأَم من ثَناءٍ عليها واستغفارٍ لها. حفِظ لها وُدَّها ووفاءها، فكان يكرِم صاحِبَاتها بعدَ وفاتِها، تقول عائشة رضي الله عنها: وربَّما ذبح الشاةَ، ثم يقطِّعها أعضاءً، ثمّ يبعثها إلى صديقاتِ خديجة، فربما قُلتُ له: كأنّه لم يكن في الدّنيا امرأةٌ إلاّ خديجة! فيقول: (( إنها كانت وكانَت، وكان لي منها ولد )). سمع النبيُّ صوتَ أختِها بعد وفاتها فحزِن كثيرًا وقال: (( ذكَّرتني بخديجة )).
كمُلَت في دينها وعقلِها وخلُقها، يقول : (( كمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النّساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسيةُ امرأة فرعون، وخديجة بنتُ خويلد)). سبَقَت نساءَ هذه الأمة في الخيريّة والشرف والسناء، يقول : (( خيرُ نِسائِها ـ أي: في زمانها ـ مريمُ بنت عمران، وخير نسائِها ـ أي: مِن هذه الأمّة ـ خديجة )). صَلحت في نفسِها وأصلَحَت بيتَها، فجَنَت ثمرةَ جُهدها، فأصبَحَت هي وابنتُها خيرَ نساء العالمين في الجنّة، يقول : (( أفضَلُ نِساء أهلِ الجنّة خديجةُ وفاطمة ومريمُ وآسية )). كانت عظيمةً في فؤادِ النبيّ ، فلم يتزوَّج امرأةً قبلَها ولم يتزوَّج امرأةً معها ولا تسرَّى إلى أن قضَت نحبَها، فحزِنَ لفَقدِها، يقول الذهبيّ رحمه الله: "كانت عاقِلةً جليلةً ديِّنةً مَصونةً كريمةً من أهلِ الجنة".
توقيع المرفق 91530
الروابط المفضلة