من هو العبد الذي لا همَّ عليه في الدنيا ولا في الآخرة؟
ليس في الدنيا ولا في الآخرة أطيب عيشًا من العارفين بالله -عز وجل-، فإن العارف به مستأنسٌ به في خلوته، فإن عمَّت نعمة؛ علم من أهداها، وإن مرَّ مرٌ؛ حلا مذاقه في فِيه؛ لمعرفته بالمبتلي، وإن سأل فتعوَّق مقصوده؛ صار مراده ما جرى به القدر، علمًا منه بالمصلحة بعد يقينه بالحكمة وثقته بحسنالتدبير.
وصفة العارف أن قلبه مراقب لمعروفه، قائم بين يديه، ناظر بعين اليقين إليه، فقد سرى من بركة معرفته إلى الجوارح ما هذَّبها.
فإن نطقت فلم أنطق بغيركم *** وإن سكت فأنتم عقد إضماري إذا تسلط على العارف أذى أعرض نظره عن السبب، و لم ير سوى المُسبِّب، فهو في أطيب عيش معه. إن سكت تفكر في إقامة حقه، وإن تكلم بما يرضيه، لا يسكن قلبه إلى زوجة ولا إلى ولد، ولا يتشبث بذيل محبة أحد، وإنما يعاشر الخلق ببدنه، وروحه عند مالك روحه، فهذا الذي لا همَّ عليه في الدنيا، ولا غم عنده وقت الرحيل عنها، ولا وحشة له في القبر، ولا خوف عليه يوم المحشر.
فأما من عَدِمَ المعرفة فإنه مُعَثَّر، لا يزال يضج من البلاء؛ لأنه لا يعرف المُبْتلِي، ويستوحش لفقد غرضه؛ لأنه لا يعرف المصلحة، و يستأنس بجنسه؛ لأنه لا معرفة بينه بين ربه، ويخاف من الرحيل؛ لأنه لا زاد له ولا معرفة بالطريق.
وكم من عالم وزاهد لم يُرزقا من المعرفة إلا ما رُزِقه العامي البطال، وربما زاد عليهما!
وكم من عامي رُزِق منها ما لم يُرْزَقاه مع اجتهادهما! وإنما هي مواهب وأقسام: {ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ}[المائدة: 54].
المرجع: صيد الخاطر
للإمام: ابن الجوزي-رحمه الله-
الروابط المفضلة