تعليقات العلامة عبد الفتاح أبي غدة


على رسالة المسترشدين (للمحاسبي)


(الجزء الثالث)


========================


وإنما يُميِّز ذلك ويرغب فيه أهل العقل عن الله[1]، الذين عملوا في إِحكامِ الظاهر ، وتنزَّهوا عن الشبه ، قال رسول الله r: (الحلال بَيِّن ، والحرام بَيِّن[2]،..........................
وبين ذلك أمور مشتبهات) تركها خير من أخذها[3].


================

[1]أي أهل الفهم عن الله تعالى.
[2]وجود المال الحلال مع انتشار المال الحرام :
قال الإمام الغزالي رحمه الله((يظن الجاهل أن الحلال مفقود ، وأن السبيل دون الوصول إليه مسدود وأنه لم يبق من الطيبات إلا الماء الفرات والحشيش النابت في الموات وما عداه فقد أخبثته الأيدي العادية وأفسدته المعاملات الفاسدة ! وإذا تعذرت القناعة بالحشيش من النبات لم يبق وجه سوى الاتساع في المحرمات فرفضوا هذا القطب من الدين أصلا ولم يدركوا بين الأموال فرقا وفصلا وهيهات هيهات فالحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات ولا تزال هذه الثلاثة مقترنات كيفما تقلبت الحالات ن وإنما الذي فقد : العلم بالحلال ، وبكيفية الوصول إليه ! )) انتهى من ((الإحياء))للغزالي 5:20 و ((فيض القدير)) للمناوي 3:424-425 .
قلت –عبد الفتاح- نعم ما تزال هذه الثلاثة موجودة ، ولكن يقل الحرام أو يكثر ، وفي زماننا قد كثر الحرام لضعف الدين ، وقلة الفقه فيه ، ولانتشار الربا وغيره من المعاملات المحرمة في غالب معاملات الناس ، والله المستعان .

انتشار المال الحرام لا يلزم منه ترك الشراء والأكل :
ومع هذا فقد قال الغزالي رحمه الله تعالى: في ((الإحياء(( 5 : 46 ((من علم أن مال الدنيا خالطه حرام قطعا لا يلزمه ترك الشراء والأكل فإن ذلك حرج، وما في الدين من حرج، ويعلم هذا بأنه لما سرق في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مجن –أي ترس- وغل واحد –أي خان فأخذ-في الغنيمة عباءة لم يمتنع أحد من شراء المجان والعباء في الدنيا وكذلك كل ما سرق.
وبالجملة إنما تنفك الدنيا عن الحرام إذا عصم الخلق كلهم عن المعاصي وهو محال
وإذا لم يشترط هذا في الدنيا لم يشترط أيضا في بلد...، إلا إذا وقع بين جماعة محصورين بل اجتناب هذا من ورع الموسوسين إذا لم ينقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة ولا يتصور الوفاء به في ملة من الملل ولا في عصر من الأعصار)).وانظر ((رسالة الحلال والحرام)) لابن تيمية.


[3]هو بعض حديث رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن النعمان بن بشير y . واللفظ المذكور عند الترمذي . وجملة ((تركها خير من أخذها)) ظاهر سياق المؤلف أنها من تمام الحديث ، ولكني لم أقف عليها في شيء من طرق الحديث ورواياته على كثرة ما تتبعتها ، فلهذا جعلتها خارج الهلالين ، والله أعلم .
وتمام رواية الترمذي: ((...وبين ذلك أمور مشتبهات لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام فمن تركها استبراء لدينه وعرضه فقد سلم ومن واقع شيئا منها يوشك أن يواقع الحرام كما أنه من يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمي الله محارمه)) . أي معاصيه. زاد البخاري ومسلم في روايتهما: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)).

الاستكثار من المباح مَدرَجة للمكروه، وهو مدرجة للحرام :
قال العلامة زين الدين ابن المنير في شرحه على ((صحيح البخاري)) عند رواية
البخاري : ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) : ((كان يقول المكروه عقبة بين العبد والحرام فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام والمباح عقبة بينه وبين المكروه فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه وهو منزع حسن ويؤيده رواية بن حبان من طريق ذكر مسلم إسنادها ولم يسق لفظها فيها من الزيادة ((اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه)) والمعنى أن الحلال حيث يخشى أن يؤل فعله مطلقا إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه كالإكثار مثلا من الطيبات فأنه يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق أو يفضى إلى بطر النفس وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية وهذا معلوم بالعادة مشاهد بالعيان والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول على ما سأذكره ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا ويختلف ذلك باختلاف الناس.
فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم فلا يقع له ذلك الا في الاستكثار من المباح أو المكروه كما تقرر قبل.
ومن دونه: تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال.
ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه، أو يكون ذلك لشبهة فيه وهو أن من تعاطى ما نهى عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع ! فيقع فيالحرام ولو لم يختر الوقوع فيه !)) .
نماذج من ورع المتقدمين :
وقال العلامة القسطلاني في ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) عند هذا الحديث 1: 191 : ((بالله عليك ما لم تعلم حلّه يقيناً: اتركه، كتركه e تمرة خشية أن تكون من تمر الصدقة، وأعلى الورع ترك الحلال مخافة الحرام‘ كترك إبراهيم بن أدهم أجرته لشكه في وفاء عمله، وطوى عن جوع شديد.
وقالت أخت بشر الحافي لأحمد بن حنبل: إنا نغزل على سطوحنا فيمر بنا مشاعل الظاهرية –الحرس- ويقع الشعاع علينا أفيجوز لنا الغزل في شعاعها؟ فقال: من أنت عافاك الله ؟ قالت: أخت بشر الحافي، فبكى وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها.
وأقامت السيدة بديعة الإيجية من أهل عصرنا هذا –القرن العاشر- بمكة أكثر من ثلاثين سنة لم تأكل من اللحوم والثمار وغيرها المجلوبة من (بجيلة) لما قيل: إنهم لا يورثون البنات. وامتنع أبوها نور الدين من تناول ثمر المدين لمّا ذُكر أنهم لا يزكون، ومن ترخّص ندم ، والأورع أسرع على الصراط يوم القيامة))انتهى.
وحكى الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) 5 : 15 في ترجمة الحافظ ابن عقدة أنَّ ((والد محمد بن سعيد الملقب بعقدة، وكان ورعاً ناسكاً: سقطت من عقدة دنانير على باب دار أبي ذر الخزاز فجاء بنخال ليطلبها قال عقدة فوجدتها ثم فكرت فقلت ليس في الدنيا غير دنانيرك فقلت للنخال هي في ذمتك ومضيت وتركته)).
وحصل مثل هذا للإمام أبي إسحاق الشيرازي شيخ الشافعية في عصره صاحب ((المهذب في المذهب))، وكان على خشونة شديدة من الفقر والإملاق ، وفي غاية الورع والصلاح ، دخل المسجد يوماً ليأكل فيه شيئاً فنسي ديناراً ، فذكره في الطريق فرجع ، فلما وجده تركه ولم يمسّه ، وقال: ربما وقع من غيري ولا يكون ديناري ، ذكره النووي في ((تهذيب الأسماء))2: 173.
وانظر باب الورع في ((الرسالة القشيرية)) تقف على العجائب المشرقة المدهشة. وللإمام أحمد بن حنبل y: ((كتاب الورع)) وهو كتاب نفيس فيه الآيات البينات من ورع السلف ، يخيل لقارئه أن الإمام أحمد بن حنبل دخل الجنة ثم جعل يتحدث عن أخلاق أهلها . فعليك بمطالعته فإنك منتفع به ، لا ريب.