عُلُـو الهمَّـة








ينبغي لك أيها الطالب:
"أن تكون صادق الرغبة، قوي الفهم، ثاقب النظر، عزيز النفس، شهم الطبع عالي الهمة، سامي الغريزة، لا ترضى لنفسك بالدون، ولا تقنع بها دون الغاية، ولا تقعد عن الجد والاجتهاد المبلِّغين لك إلى أعلى ما يراد، وأرفع ما يستفاد، فإن النفس الأبية، والهمم العلية، لا ترضى بدون الغاية في المطالب الدنيوية من جاه، أو مال، أو صناعة، أو حرفة، حتى قال قائلهم:
إذا غامرت في شرفٍ مدومِ فلا تقنع بما دون النـجوم
فطعم الموت في أمرٍ حقـير كطعم الموت في أمر عظيم
وقال آخر مشيرًا إلى هذا المعنى:
إذا لم تكن ملكاً مطـاعًا فكـن عبدًا لخالقه مطيعًا
وإن لم تملك الدنيا جميعًا كما تهـواه فاتركها جميعًا
وقد ورد هذا المعنى كثيرًا في النظم والنثر، وهو المطلب الذي تنشط إليه الهمم الشريفة، وتقبله النفوس العلية، وإذا كان هذا شأنهم في الأمور الدنيوية التي هي سريعة الزوال، قريبة الاضمحلال، فكيف لا يكون ذلك من مطالب المتوجِّهين إلى ما هو أشرف مطلبًا، وأعلى مكسبًا، وأرفع مرادًا، مع كون العلم أعلاها وأولاها بكل فضيلة، وأجلها وأكملها في حصول المقصود، وهو الخير الأخروي فإن الله –سبحانه- قد قرن العلماء في كتابه بنفسه وملائكته، فقال: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ}[آل عمران:18].
وقصر الخشية له التي هي سبب الفوز لديه عليهم، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}[فاطر،:24].
وأخبر عباده بأنه يرفع علماء أمته درجات، فقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }[المجادلة:11].
وناهيك بهذه المزية الجلية، والمنقبة النبيلة، فأكرم بنفسٍ تطلب غاية المطالب، في أشرف المكاسب، وأحبب برجلٍ أراد من الفضائل ما لا تدانيه فضيلة، ولا تساميه منقبة، ولا تقاربه مكرمة.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "... السعادة الثالثة، هي: السعادة الحقيقية، وهي سعادة نفسانية روحية قلبية، وهي سعادة العلم النافع ثمرته، فإنها هي الباقية على تقلُّب الأحوال، والمصاحبة للعبد في جميع أسفاره، وفي دوره الثلاثة، أعني دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وبها يرتقي معارج الفضل، ودرجات الكمال.
أما الأولى: فأنها تَصْحَبه في البقعة التي فيها ماله وجاهه.
والثانية: تُعَرِّضه للزوال والتبديل بنكس الخلق، والرد إلى الضعف، فلا سعادة في الحقيقة إلا في هذه الحالة: التي كلما طال الأمد ازدادت قوة وعلوًا، وإذا عدم المال والجاه فهي مال العبد وجاهه، وتظهر قوتها وأثرها بعد مفارقة الروح والبدن، إذا انقطعت السعادتان الأوليان، وهذه السعادة لا يعرف قدرها ويبعث على طلبها، إلا العلم بها، فعادت السعادة كلها إلى العلم وما يقتضيه، والله يوفق من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
وإنما رغب أكثر الخلق عن اكتساب هذه السعادة، وتحصيلها: وعورة طريقها، ومرارة مباديها، وتعب تحصيلها، وإنها لا تنال إلا على جد من التعب، فإنها لا تحصل إلا بالجد المحض، بخلاف الأوليين، فإنهما حظ قد يَحُوزه غير طالبه، وبخت قد يَحُوزه غير جالبه، من ميراث، أو هبة، أو غير ذلك.
وأما سعادة العلم، فلا يورث إياها إلا بذل الوسع، وصدق الطلب، وصحة النية، وقد أحسن من قال في ذلك:
فقل لمرجي معـالي الأمور بغير اجتـهاد رجوت المحالا
وقال الآخر:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقـر والإقـدام قتال
ومن طمحت همته إلى الأمور العالية، فوجب عليه أن يشدَّ على محبة الطرق الدينية، وهي: السعادة، وإن كانت في ابتدئها لا تنفك عن ضربٍ من المشقة والكره والتأذي، وإنها متى أُكْرِهت النفس عليها، وسِيقت طائعة وكارهة إليها، وصبرت على لأوائها وشدتها، أفضت منها إلى رياض مونقة، ومقاعد صدق ومقام كريم، تجد لذة دونها لعب الصبي بالعصفور بالنسبة إلى لذات الملوك، فحينئذ حال صاحبها كما قيل:
وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غــاية ما بعدها لي مذهب
فلما تلاقينـا وعاينـت حسـنها تيـقنت أني إنـما كنـت ألعب
فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يُعْبِر إليها إلا على جسد المشقة، فلا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد. قال مسلم في صحيحه: قال يحي بن أبي كثير: لا ينال العلم براحة الجسم.
وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة.
فيا واصـل الحبيب أما إليه بغـير مشقــة أبدًأ طريق
ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة، وعظم قدرها، لتجالدوا عليها بالسيوف، ولكن حُفَّت بحجاب المكاره، وحُجِبوا عنها بحجاب الجهل؛ ليختص الله لها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم".



المرجع: من فقه الطلب
كتبه: أبو عبد الرحمن حسن بن محمد بن يوسف