لابد من أن تثمر الدعوة في حياة الرسول نفسه ، وأن تنتج جيلاً جديداً لا يشبه الأجيال القديمة ، ولا يقبل انتكاصاً ولا انتكاساً

للعلامة: أبي الحسن الندوي

إن ظهور معجزة التأثير والهداية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وظهور الإنقلاب في الأخلاق والعقائد ، وبروز نماذج إنسانية عملية –من أروع ما شاهد التاريخ من نماذج وأجملها- يشق الطريق للإسلام ، وتترامى بفضله وتأثيره أمم وأقطار في أحظان الإسلام ، ويتكون مجتمع كامل حيٌّ يعتبر مجتمعاً مثالياً نموذجياً من كل جهة .
ويجب أن يتحقق كل ذلك في حياة الرسول وعلى إثر وفاته ، حيث إن الدين الذي لا يستطيع أن يقدم أمام العالم عدداً وجيهاً من نماذج عملية ناجحة بناءة ، ومجتمعاً مثالياً في أيام داعيه وحامل رسالته الأولى ، لا يعتبر ناجحاً ، كما أن الشجرة التي لم تؤت ثمارها اليانعة الحلوة ، ولم تتفتح أزهارها العطرة الجميلة ، أيام شبابها وفي موسم ربيعها (وهو عهد النبوة) لا تعتبر شجرة مثمرة سليمة ، فكيف يسوغ لدعاة هذه الدعوة والدين وممثليهما الذين ظهروا بعد أن مضى على عهد النبوة زمن طويل ، أن يوجهوا إلى الجيل المعاصر والعالم الحاضر دعوة إلى الإيمان والعمل والدخول في السلم كافة والتغيير الكامل في الحياة ، وهم عاجزون –في ضوء مذهب الشيعة وأقاويلهم-عن تقديم نتائج حية باهرة للألباب ، مسلَّمة عند المؤرخين ، للمجهودات التي بُذلت في العهد الأول ، وفي فجر تاريخه ، في سبيل إبراز أمة جديدة ، وإنشاء جيل مثالي ، يمثل التعاليم النبوية أصدق تمثيل ، ويبرهن على تأثيرها ونجاحها .

ميزة الرسول عن مؤسسي الحكومات والقادة الماديين حول تأسيس المملكة الوراثية وأزدهارها

كذلك من البديهيات اللازمة أن يكون هذا الداعي الأول والمرسل من الله وحامل رسالته ، متميزاً عن مؤسسي الحكومات والفاتحين والغزاة والقادة السياسين والزعماء الماديين في طبيعته وأذواقه وسلوكه وعمله ومقاصده ونتائجه تميزاً واضحاً ، ويكون هنالك تناقض بَيِّنْ ، بينه وبين هذه الطائفة .
إن محور الجهود التي يبذلها مؤسسو الحكومات ، وفاتحو البلدان ، وزعماء العالم ، من أصحاب الطموح ومجربي الحظوظ ، وهدفهم الأعلى (أو النتيجة الحتمية الطبيعية على أقل تقدير) إنما هو قيام مملكة خاصة ، وتأسيس حكومة وراثية . إنها ظاهرة طبعية وحقيقة تاريخية على مر القرون والأجيال ، يشهد بذلك تاريخ ازدهار الأسر الرومية ، والبيزنطية ، والساسانية ، والكيانية ، وأسرتي ((سورج بنسي)) و ((جندر بنسي))(1) .
أما إذا لم يتحقق قيام دولة قبلية أو عالمية لسبب قاسر ، فأقل درجة لدى هؤلاء المؤسسين للحكومات ، والفاتحين والغزاة ، وزعماء السياسة – الذين تمَّ لهم النجاح في التحركات التي قاموا بها – أن يمتلكوا العزَّة والثراء الفاحش وأسباب التنعم والترف الموسعة ، إنهم يتقلبون في أعطاف النعيم ، ويتأرجحون في أراجيح الذهب والفضة ، وشأنهم في ذلك شأن أسد في الغابة يفترس لنفسه ، ويأكل من بقايا صيده مئات من الوحوش .
إن قصة النعيم والترف الذي تقلبت في أعطافه أُسر المتربعين على عروش الحكم في رومة والدولة الكيانية ، يُشبهُ أساطير خيالية ، وقصصاً جنية ، ولولا أن ورائها شهادات تاريخية لما صدقها العقل (2) ، ويمكن تقدير ذلك من تلك الأبهة العظيمة التي وجدت في بلاط كسرى ، ومن التفاصيل المدهشة التي يتحدث عنها المؤرخون عن ((فرش بهار)) (3) وعن الأسر المالكة في الدول الرومية والفارسية والهندية ، وعن أساليب الحياة لأتباعهم ، وبذخهم بَذخاً لا يُتصوَّر .
بالعكس من ذلك ، فإن الرسول المبعوث من الله لا يؤسس مملكة وراثية ، ولا يقوم بتوفير فرص وإمكانيات التنعيم والترف التي يمتد طويلة لأفراد أسرته ، ولا يهتم بالحدب على مصالحهم لكي يتمكنوا بفضل بذلك من العيش في رفاهية وتفرغ من الهموم ومتاعب الحياة ، بخلاف طبقات الأمة الأخرى ، بل بالعكس من ذلك ، يعيش أفراد أسرته – في حياته وبعد مماته – حياة زُهدٍ وتقشف ، وقناعة وإيثار ، وتنازل عن كثير من أسباب الرفاهية والرخاء ، ويعتمدون على مجهوداتهم وكفاءاتهم الذاتية ، دون أن يعيشوا مترفين متنعمين على حساب غيرهم ، مثل أسر البراهمة عند الهنادك ، ((والأكليروس)) (Clergy – رجال الدين المسيحي) أو كأي جنس مقدس (4) .


=============

(1)أسرتان ملكيتان مشهورتان في الهند قبل الإسلام ، حَكَمتا زمناً طويلاً .
(2) راجع كتاب (إيران في عهد الساسانيين) للبرفسور الدنماركي أرثر كرستين سين الباب التاسع ، وتاريخ إيران لمؤلفه شاهين مكاريوس ، ص 90 .
(3) هو بساط كان يبسط أيام الخريف وتنعقد عليه مجالس الشرب والغناء ، استحضاراً لذكريات الربيع .
(4) وسيأتي التفصيل في الصفحات القادمة .