دعوة للتأمل والتفكر
تفكر ساعة
الله يعلم

دكتور: عماد عطا البياتي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد…
أعارني أحد الزملاء جنين إنسان بعمر عشرة أسابيع تقريباً، محفوظاً في حاوية زجاجية تحتوي على مادة الفورمالين التي تستخدم في مختبرات التشريح ومتاحف الأنسجة في كليات الطب والمعاهد العلمية الطبية البحثية.
استخدمت هذا الجنين كوسيلة تعليمية في إحدى الدروس العلمية الإيمانية التفكرية التي ألقيتها في أحد المساجد، والشيء المدهش والمتوقع في الأمر هو أن كل من شاهد هذا الجنين الذي هو بطول إصبع اليد تقريباً وبتفاصيل خلقية كاملة، قال شيئاً من هذه الكلمات عفوياً وتلقائياً: الله، سبحان الله، سبحان الخالق، ما شاء الله، الله قادر على كل شيء، وغيرها من عبارات التنزيه والتعظيم للخالق جل جلاله.

وسألني أحد الأصدقاء متعجباً من علم وقدرة الإنسان الذي اكتشف مادة الفورمالين التي تحافظ على أنسجة وخلايا هذا الجنين الميت وتمنع تفسخها وانحلالها فقال:
كم من الوقت ممكن أن يبقى هذا الجنين في هذا السائل دون أن يتفسخ ويتحلل.
فقلت له: لا اعلم على وجه الدقة والتحديد، ولكن أستطيع أن أقول لك: لسنين طويلة.
فقال: سبحان الله، ما أعظم قدرة وعلم هذا الإنسان وما أوسع تفكيره؟!.
فقلت له: صدقت، فانك الآن تعظم علم وقدرة وفكر هذا الإنسان، فما بالك بعلم وقدرة خالق هذا الإنسان. فالأولى بنا أن نعظمه حق التعظيم وننبهر ونعجب بدرجة كبيرة جداً لا يمكن مقارنتها بتعظيم الإنسان، لأنه لا مجال هنا للمقارنة والقياس فعلم الله وقدرته مطلقة غير محدودة وشاملة لكل شيء ومحيطة بعالم الشهادة وعالم الغيب. وإذا كنا ننبهر ونعجب باكتشاف الإنسان لسائل ومادة تستطيع أن تحافظ على أنسجة ميتة وتمنع عنها التلف والتفسخ والانحلال، فكيف إذا نظرنا إلى السائل السلوي (Amniotic fluid) الذي يحيط ويحفظ الجنين الحي في داخل رحم الأم؟!.

] يقول الأطباء متحدثين عن هذا السائل:
يغلف الجنين بكيس رقيق يحيط به من كل جانب إحاطة تامة ويحتوي على مادة سائلة تسمى السائل السلوي، من فوائد هذا السائل:
· يحمي الجنين ويحفظه من الصدمات المفاجئة والحركات العنيفة التي قد تتعرض لها الأم.
· يسمح للجنين بالحركة التامة داخل الرحم، وخصوصاً من الأشهر الأولى من عمر الجنين.
· يحتفظ للجنين بحرارة ثابتة تقريباً، فهو يعمل كجهاز تكييف للجنين.
· يحتوي على مواد غذائية من السكريات والبروتينات والأملاح غير العضوية، يستفاد منها الجنين كغذاء له.
· يمنع هذا السائل الغشاء السلوي المحيط بالجنين من الالتصاق بهذا الجنين، وذلك لأن التصاق الغشاء بالجنين من العوامل المهمة في حدوث التشوهات الخلقية.
] ومن الآيات العظيمة الجليلة في القرآن الكريم، التي تتحدث عن سعة علم الله سبحانه وتعالى وعظيم تقديره الذي يتجلى في خلق الأجنة داخل الرحم، الآيات التالية من سورة الرعد:

· بسم الله الرحمن الرحيم
((الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار& عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال&)) (الرعد: 8-9)

آية عظيمة تبين لنا الآيات المتجلية في خلق هذا السائل المدهش المذهل والذي يدل بوضوح وقوة كبيرة على علم الله تعالى وعلى تقديره جل جلاله.
"الله يعلم ما تحمل كل أنثى…" أي الله وحده الذي يعلم ما تحمله كل أنثى في بطنها هل هو ذكر أم أنثى؟ تام أم ناقص؟ حسن أو قبيح؟… كل أنثى من البشر والمخلوقات الأخرى، كل أنثى في هذا الكون المترامي الأطراف، كل أنثى في الوبر والمدر، في البدو والحضر، في البيوت والكهوف والمسارب والغابات، فعلم الله مطلاً على كل حمل في أرحام هذه الإناث.
"وما تغيض الأرحام وما تزداد…" إن كل ما يحدث من تطورات وتبدلات وتحولات ونقصان وزيادة في الجنين وما يغلفه من أغشية ومن سوائل يندرج تحت هذه الآية الكريمة… وإن علم "وما تغيض الأرحام وما تزداد"، علم مستحيل على البشر، وغاية ما نستطيع أن نعلمه أن الرحم يغيض "أي ينقص" ويزداد، ولكن ماذا يغيض وماذا يزداد في كل لحظة وفي رحم كل أنثى تحمل جنيناً؟ فهذا هو العلم الذي استأثر به الله تعالى لنفسه. غاية ما في الأمر أننا ندرس آثار هذه التبدلات والتحولات على الجنين فندرك بما أتانا الله من علم صحة هذا الجنين ومرضه.
"وكل شيء عنده بمقدار" يشير الله تبارك وتعالى بإعجاز إلى أن كل ما يجري في هذه الأرحام محسوب بدقة وبقدر محدود لا يتجاوزه حسب المصلحة والمنفعة، وغني عن البيان إن من غير الممكن أن يتمكن أحد من القيام بهذه الحسابات المعقدة والدقيقة لأي رحم من الأرحام فكيف بكل الأرحام!!.
] ونعود إلى السائل السلوي المدهش الذي يحيط بالجنين ونتخذ منه مثلاً لإظهار المعاني العظيمة التي تشير إليها الآية الكريمة وهي تتحدث عن عظيم علم الله تبارك وتعالى وتقديره.
يقول الأطباء: إن هذا السائل يزداد حجمه مع زيادة نمو الجنين حتى يصل إلى لتر ونصف عند الشهر السابع من الحمل، ثم ينقص حجمه تدريجياً حتى يصبح لتراً واحداً فقط قبل الولادة. وإن حجم هذا السائل المتغير زيادة ونقصاناً مع أيام واشهر الحمل المختلفة يوافق ويلائم مصلحة ومنفعة الجنين بصورة دقيقة جداً وإن أي خلل في حجم هذا السائل المقدر حجمه وتركيبه من الله تبارك وتعالى من الممكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة مثل الولادة المبكرة في حالة الزيادة والولادة المتعسرة والتشوهات الخلقية في حالة النقصان، "وكل شيء عنده بمقدار".
ومن الحقائق المدهشة والعجيبة عن هذا السائل هو سرعة تكوينه، حيث أن الماء الموجود في هذا السائل يتبدل بمعدل مرة واحدة كل ثلاث ساعات، كما أظهرت ذلك الدراسات العلمية التي أجريت باستعمال النظائر المشعة.
وإن مما يبهر العقول ويدهش الأفكار ويهز القلوب هو وظائف وفوائد هذا السائل أثناء عملية المخاض والولادة.
يقول الأطباء عن ذلك:
· يوزع السائل السلوي الضغط الناتج من تقلص الرحم أثناء الولادة، ولولا لطف الله سبحانه وتعالى في وجود جيب المياه هذا لتهشم رأس الجنين أثناء الولادة.
· يقوم بتمهيد وتعقيم الطريق للجنين عندما ينفجر جيب المياه فيقتل الميكروبات الموجودة في المهبل قبيل الولادة مباشرة حتى يضمن للجنين طريقاً ممهداً ومعقماً.
فسبحان الله العليم الحكيم.
هذا كله مثال واحد بسيط على علم الله تعالى وتقديره بما يغيض ويزداد في رحم أنثى واحدة، وهنالك تفصيلات كثيرة لا حصر لها بما يجري في داخل الأرحام من تزويد أوكسجين وغذاء إلى الجنين عن طريق المشيمة، وتطور ونمو خلايا وأنسجة وأعضاء الجنين… وهذا كله في عالم الشهادة وهنالك تفصيلات في عالم الغيب لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، "عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال" أي ما غاب عن الحس وما كان مشاهداً منظوراً، فعلمه تعالى عام شامل للخفي والمرئي لا يخفى عليه شيء. وفي هذه الآية دليل على سعة رحمة الله تعالى بالبشرية بأن يسر لها سبيل العلم ببعض ما يجري من تحولات وتطورات ونقصان وزيادة في داخل الأرحام، وذلك بان جعله متاحاً لعلم البشر في عالم الشهادة ليقوموا برعاية حواملهم على الوجه الأسلم والأيسر. ولكن يبقى علم البشر واقفاً بتواضع واندهاش كبيرين أمام علم الله وتقدير الله وهو يرى بعض ما يجري من عجائب الأمور داخل الأرحام.

] يقول أحد الأطباء المختصين في علوم النسائية والتوليد:
إننا نفرح بالنظرية الجديدة أو بالاكتشاف الجديد الذي يتحقق في اختصاصنا، ثم لا نلبث أن نكتشف أننا بهذه الإضافة لما نعلم قد أضفنا اكثر بكثير لما نجهل!!.
إن علم التوليد وأمراض النساء هذا يشكل ربع علوم الطب كله تقريباً، وهو يتعلق بجهاز صغير واحد من أجهزة الجسم، وهو علم مستمر بالاتساع إلى يوم القيامة، ولا يمكن أن يأتي يوم يتوقف الإنسان من البحث العلمي فيه، إن عالمي الغيب والشهادة هنا كالليل والنهار كلما لحق النهار بالليل لحق الليل بالنهار، وكلما ازدادت معلوماتنا ازدادت مجهولاتنا، ولن يستطيع الإنسان مهما تطور أن يحضر علم الأرحام كله من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، وذلك لسبب بسيط، هو أننا بشر، وهو أننا ما أوتينا من العلم إلا قليلاً.
] ومما جاءنا في السنة النبوية المطهرة عن علم الله تبارك وتعالى وتقديره للأجنة في داخل الأرحام، ما جاء عن النبي محمد e في الحديث الشريف الذي يرويه ابن مسعود عن النبي محمد e : (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد…) (رواه البخاري ومسلم).
سبحان الله تعالى كل ذلك يعلمه الله ويقدره للجنين وهو في بطن أمه وليس لجنين واحد بل لكل الأجنة ولكل الإناث على وجه الأرض.
بسم الله الرحمن الرحيم: ((الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار & عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال &)) (الرعد: 8-9)