قصة قصيرةمنى العمد
ابتسامة وسلام
في طريق أعد للمشاة، اصطفت على جانبيه أشجار السرو الخضراء، وفي يوم اعتدل جوه ورق نسيمه، خرجت مع إحدى زميلاتي في الجامعة نمتع أنظارنا بهذا الجو الرائع ونتجاذب أطراف حديث لا ينتهي، وبينا نحن كذلك إذ تقابلنا مع فتاتين أخريين خرجتا لمثل ما خرجنا له، وإذ بعيني التقت عيني إحداهما، ابتسمت بديهة وقلت: السلام عليكم، نظرت إليّ ولم تجب بشيء، واستمرت كل منا في طريقها، لكنها ما لبثت أن لحقت بنا، وسألت: عندما سلمت قبل قليل، هل كنت تقصدينني بالسلام؟
قلت: نعم.
قالت: هل تعرفينني من قبل؟
قلت: لا.
قالت: فلماذا سلمت إذاً؟
قلت: وماذا يمنع؟ ثم إن رسولنا صلى الله عليه وسلم أمرنا بإلقاء السلام على من عرفنا ومن لم نعرف.
قالت وهي تهز رأسها إعجاباً: شيء جميل حقاً، وأضافت متسائلة: وهل أمركم كذلك بالتبسم في وجهي؟
رابني قولها "أمركم"، فسألتها: ألست مسلمة؟ "فلم يكن في مظهرها ما يدل على إسلامها".
قالت: أنا مسلمة والحمد لله، ....
قلت: كما أمرنا بكل فضيلة أمرنا بالتبسم، فقال صلى الله عليه وسلم : "تبسمك في وجه أخيك صدقة".
قالت ضاحكة: تتصدقين عليّ بالتبسم طمعاً في أجر الصدقة!! إذن فليست ابتسامتك من القلب.
قلت باسمة: ومن قال إنها ليست من القلب؟ لو لم تكن متصلة بالقلب ونابعة منه لما وقعت منك في القلب، ثم إن الأمر بالتبسم يوافق الفطرة، وكثيرة هي الأسباب التي تربط بيننا، الدين واللغة والمرحلة العمرية والدراسة في جامعة واحدة، فلماذا لا نبتسم ونتعارف حين نلتقي؟! ألا تذكرين قول إيليا أبو ماضي الذي مر بنا في المرحلة الإعدادية:
أتراك تغنم بالتبرم درهماً
أم أنت تخسر بالبشاشة مغنما
همت بمتابعة طريقها لكنها عادت فقالت: هل تسمحان لنا أن نمشي معكما؟
قلنا: حياكما الله.. تفضلا.
قالت صاحبتي: أنتما مختلفتان عن بقية طالبات كلية الشريعة.
قلت: في أي شيء نختلف. وأشرت إلى عدد كبير من الطالبات وتساءلت: ما الفرق بيننا وبينهن؟
قالت بعفوية: أنتما طيبتان، ابتسمتما في وجهي حتى وأنتما لا تعرفاني، ذلك مع أني ونظرت إلى لباسها متابعة : لا ألبس الحجاب الشرعي.
قلت: ما أرسلنا الله تعالى قضاة نحكم على الناس، إنما نحن دعاة، نقول الخير ما استطعنا ونسأل الله السلامة.
قالت: كلامك مريح، وأنا والله بالرغم مما ترينه مني وأعادت النظر إلى ملابسها بشيء من الحرج هذه المرة وتابعت: والله إني أحب الله ورسوله وأحب الدين، حتى إني أمتنع عن نمص حاجبي لأنه حرام، سمعت حديثاً فيه لعْن النامصة.. ألست على صواب؟
قلت وأنا أحاول غض طرفي عن لباسها الذي يكشف نحرها وذراعيها وساقيها، كما أحاول إخفاء تعجبي من المقارنة بين ما تقول وتفعل، قلت: نعم، لقد حرم الله تعالى النمص ولعن الرسول صلى الله عليه وسلم النامصة والمتنمصة في حديثه، وجميل منك جداً أن تلتزمي بذلك ولكن.. وابتسمت في وجهها مضيفة: لكن يا عزيزتي، ألم ينه الرسول صلى الله عليه وسلم عن كشف هذه المفاتن منك، وأخذت أشير بتودد إلى ذراعيها؟!
قالت: هل تظنين أنني فتاة فاسقة؟ لا أخلاق عندي؟
قلت: معاذ الله، بل أظن خيراً بجميع المسلمات كما أظن بنفسي.
قالت: الطالبات المحجبات ينظرن إليَّ نظرات فيها اتهام بالسقوط وربما الفجور.
قلت: يا أختاه لا تدعي هؤلاء الفتيات يحلن بينك وبين الله تعالى، فلا أنا ولا هن يملك لك أو لأنفسنا ضراً ولا نفعاً، بل أنت من يملك أن يختار لنفسه.. والأمر إليك أنت.
قالت: هذا كلام جميل أسمعه لأول مرة، إنه منطقيٌّ جداً. ولكن دعيني أسألك سؤالاً يحيرني.
قلت ضاحكة: لك إن تسألي ما شئت، وأنا لي ألا أجيب، فلست فقيهة ولا عالمة "وكنت لا أزال طالبة في السنة الثانية ذلك الوقت".
قالت: علمت أن التفكير بالذات الإلهية أمر محرم، فلماذا هو محرم؟ هل يحجر الإسلام على العقل؟
قلت بل الإسلام هو الذي دعا للتفكير.. حتى لقد جعل التفكر في خلق الله خيراً من صلاة التطوع، وجعل للعالم فضلاً على العابد. لكن الذي أعلمه أن الذات الإلهية خارج المساحة التي يمكن للعقل أن يعمل بها؟ فالمسألة محسومة، العقل لا يمكنه الإحاطة بالذات الإلهية، ثم أليس الله تعالى هو الذي خلق العقل وهو الذي قدر قدراته؟ فإذا حرم علينا دخول دائرة معينة فهو يعلم أنها خارج حدود العقل.
قالت: كلام منطقيّ، ولكنه غير مقنع بالنسبة لي، فأنا أريد أن أفكر، لماذا أمُنع من مجرد التفكير؟
قلت: ما رأيك أن أصحبك إلى من يجيبك؟
رحبت بالفكرة، ومضينا معاً إلى أحد أساتذة الكلية وقدمتها له ثم تركت لها الحديث، طرحت عليه سؤالها بجرأة وأدب، فسكت ملياً ثم قال: منذ أن خلق الله الخلق.. والمفكرون والفلاسفة يفكرون في الذات الإلهية، أليس كذلك؟
قالت: بلى.
قال: فإلى أي شيء توصلوا؟
قالت: لم يتوصلوا إلى شيء.
قال: ففيم إذن نضيع أوقاتنا وعقولنا ونحن نعلم أن المسألة محسومة، أرأيت لو أخذت خمسة دنانير ورقية وقمت بإحراقها أمامك، ماذا تقولين فيّ؟
سكتت باستحياء.
قال: ألن تقولي إني مجنون؟
قالت في حرج ظاهر: بلى.
قال: فإذا كان من يحرق خمسة دنانير من ماله يتهم بالجنون فكيف بمن يهدر وقته وعقله بل عمره فيما لا فائدة منه؟
بدا عليها الاقتناع بما قال. ثم أثنى الدكتور عليها فقال لها: يبدو أن لديك عقلاً مستنيراً وفكراً إيجابياً، ما أجمل أن تكمليه بجلباب شرعي فيتفق مخبرك ومظهرك!
لمعت عيناها، ووعدت خيراً.. وشكرنا أستاذنا وخرجنا.. مشينا قليلاً وهي مطرقة كمن يحدث نفسه، وآثرت أنا وزميلتي أن نلوذ بالصمت حتى تنتهي من حوارها مع نفسها، ثم رفعت رأسها فجأة وقالت: أريد أن أشتري الحجاب الآن فهل ترافقانني؟
وفي سعادة غامرة مضينا معاً إلى المركز الإسلامي وكان قريباً نسبياً من موقع الكلية، وكنا على معرفة سابقة بمديرة المركز وحكينا لها الحكاية باختصار.
قالت صاحبتنا بعد أن اختارت جلباباً وخماراً في حماس ظاهر: لكن المبلغ الذي معي لا يغطي ثمن الجلباب، فهل تنتظرونني إلى غد؟! فقالت مديرة المركز: بل نقدم لك الحجاب والخمار هدية من المركز تعبيراً عن سعادتنا بعودتك، وأخذت تصافحها مهنئة، ثم أقبلت هي علينا تصافحنا بامتنان ودموع الفرح تملأ عينيها.
وخرجنا محجبات ثلاث بعد أن كنا محجبتين وسافرة، كان قد حجبها عن الإقبال على الله نفور بعض الملتزمات منها، وافتراضهن سلفاً الشر فيها، مع أن الخير متأصل في نفسها، كان فقط مغطى بطبقة من الشر رقيقة، كان يكفي لإزالتها مجرد ابتسامة، ابتسامة وسلام...
مجلة المجتمع العدد: 1747
الروابط المفضلة