بين يدي الرحلة المعجزة
في ذكرى ليلة الإسراء والمعراج
المصدر: الأستاذ عثمان بجادي
من جريدة الخبر لتاريخ 21/08/2006
في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة إحدى عشرة من البعثة النبوية أو بعام تقريبا قبل الهجرة على الراجح، أسرى الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم بالروح والجسد من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى بفلسطين، الذي وصفه الله بالبركة، حتى فاضت من حوله، ليكون صلى الله عليه وسلم في ضيافة الله، وليشاهد الآيات، وليكرمه بعد المعاناة التي لقيها في قومه بمكة وهو يدعوهم إلى الإسلام، وقد بلغت هذه المعاناة مداها بعد وفاة عمه وزوجته وعودته من الطائف مطرودا·· قال تعالى ''سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير'' الإسراء1·
وحتى يتهيأ صلى الله عليه وسلم بهذه الرحلة المباركة، جاءه جبريل كما روى البخاري ليلة أسرى به، فشق صدره وغسله من ماء زمزم، ثم أفرغ فيه إيمانا وحكمة· وكانت وسيلة الإسراء البراق، وهو دابة، أبيض، يضع حافره عند منتهى طرفه· وعندما وصل إلى بيت المقدس بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء عليهم السلام، فأمّهم كما في رواية ابن جرير والبيهقي، وبعد صلاة ركعتين، قال صلى الله عليه وسلم ''فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل أصبت الفطرة ثم عرج بي'' أحمد·
لقد أراد تعالى أن يزيد في إكرامه صلى الله عليه وسلم، فهيأ له بقدرته رحلة ثانية في ملكوت السماء هي رحلة المعراج، حيث صعد إلى السماء يستفتح جبريل ثم يسأل ومن معك؟ فيقول محمد، فيرحب به، فرأى في السماء الدنيا آدم، وفي الثانية عيسى ويحيى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم، ثم ذهب به إلى سدرة المنتهى، وفرض الله عليه خمسين صلاة، فلما نزل انتهى إلى موسى حيث سأله ما فرض ربك على أمتك، فأخبره، فقال له موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فخفف الله عنه خمسا، ثم مازال بين موسى وبين ربه حتى كانت خمس صلوات··
ورأى الآيات الكبرى التي بيّنها للناس في السنة النبوية المطهرة·· وقد أجمل القرآن هذه الرحلة في قوله تعالى من سورة النجم ''والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علّمه شديد القوى ذو مِرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى''·
ولما أصبح صلى الله عليه وسلم ليلة إسرائه ومعراجه بعد عودته إلى مكة، أخبر قومه فكذبوه وطلبوا منه أن يصف لهم بيت المقدس فوصفه وصفا دقيقا، ومع ذلك أصروا على تكذيبه وسألوه عن عير لهم كانت في الطريق فوصفها لهم وذكر ما حدث لهم·· وعندما سألوا أهل العير تعجبوا ومع ذلك لم يؤمنوا وقالوا لأبي بكر ''إن صاحبك يقول كذا وكذا'' فقال ''إن كان قاله فهو صادق'' فسمي صديقا، وكانت هذه الحادثة فتنة لبعض الناس ومنهم من ارتدّ·
و باختصار أسرى المولى سبحانه وتعالى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس، ومن هناك عرج به إلى السماء السابعة وإلى حيث شاء الله تعالى، وكان الإسراء والمعراج في مكة قبل الهجرة إلى المدينة المنورة بسنة، وصرح القرآن الكريم بالإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأشار إلى المعراج، وأكدت السنة النبوية خبر الإسراء والمعراج· وتأتي هذه المعجزة تكريما للرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه وزوجته، وبعد ما أصابه في الطائف· ويقصد بالإسراء الانتقال من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس· ويقصد بالمعراج الصعود إلى السموات العلا· وفي هذه الرحلة أطلعه الله على الآيات الكبرى·
الإسراء والمعراج بالروح والجسد يقظة
هل كان الإسراء والمعراج في اليقظة أم في المنام، وهل كان بجسمه صلى الله عليه وسلم وروحه، أم بروحه فقط؟
ذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أن الإسراء والمعراج كانا ببدنه وروحه، يقظة لا مناما، في ليلة واحدة· وهو الأصح، إذ لو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة ولما استبعده واستنكره الكفار ''ولا كذبوه لأن مثل هذا لا ينكر مناما، وكلمة (بعبده) في آية الإسراء تشمل روحه وجسده·
الإسراء والمعراج دروس وعبر·· أسرار وعلوم
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي ''لم يكن الإسراء مجرد حادث فردي بسيط رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات الكبرى وتجلى له ملكوت السموات والأرض، مشاهدة وعيانا، زيادة على ذلك، اشتملت هذه الرحلة النبوية الغيبية على معان دقيقة كثيرة وإشارات حكيمة بعيدة المدى: فقد ضمت قصة الإسراء وأعلنت السورتان الكريمتان اللتان نزلتا في شأنه (الإسراء) و(النجم) أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو نبي القبلتين وإمام المشرقين والمغربين ووارث الأنبياء قبله، وإمام الأجيال بعده، فقد التقت في شخصه وفي إسرائه مكة بالقدس، والبيت الحرام بالمسجد الأقصى، وصلى بالأنبياء خلفه، فكان هذا إيذانا بعموم رسالته وخلود إمامته وإنسانية تعاليمه وصلاحيتها لاختلاف المكان والزمان، وأفادت هذه السورة الكريمة تعيين شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ووصف إمامته وقيادته، وتحديد مكانة الأمة التي بعث فيها وآمنت به وبيان رسالته، ودورها الذي ستمثله في العالم ومن بين الشعوب والأمم''·
الإسراء والمعراج في القرآن والسنة النبوية
جاء التصريح بالإسراء في القرآن الكريم في الآية الكريمة من سورة الإسراء وهي قوله تعالى ''سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير'' الإسراء: .1
وأشار القرآن إلى المعراج في قوله تعالى من سورة النجم ''ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى: النجم: 14 ـ .18 وليس هناك حديث واحد يجمع ما ورد من أحداث خلال هذه الرحلة المباركة، وإنما هناك أحاديث كل منها أشار إلى جزء أو جانب، وقد لخص ما جاء في الأحاديث الصحيحة الإمام ابن كثير فقال ''والحق أنه عليه السلام أسري به يقظة لا مناما من مكة إلى بيت المقدس راكبا البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين ثم أتي بالمعراج وهو كالسلم ذي درج يرقى فيها فصعد فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السموات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوه، وسلم على الأنبياء الذين في السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مر بموسى الكليم في السادسة وابراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتيهما صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صرير الأقلام، أي أقلام القدر بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى، ورأى هناك جبريل على صورته ورأى البيت المعمور وابراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسندا ظهره إلى الكعبة السماوية، ورأى الجنة والنار، وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خفضها إلى خمس رحمة منه ولطفا بعباده، ثم هبط إلى بيت المقدس وصلى بالأنبياء هناك، ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس''·
بعد كل محنة منحة
كان العام العاشر من بعثته صلى الله عليه وسلم عام الأحزان لوفاة زوجته خديجة وعمه أبي طالب وفيه التمس النبي النصرة وتبليغ الرسالة في الطائف، فأعرض عنه سادة ثقيف وأغروا سفهاءهم وعبيدهم، وأحكمت قريش الحصار ضد الدعوة من كل جانب فصبر وصابر لأمر ربه، فجاءته حادثة الإسراء والمعراج على قدر من رب العالمين إكراما له على صبره وجهاده وثباته صلى الله عليه وسلم·
الاستعداد للمرحلة الجديدة بلاء وامتحان
كان الرسول صلى الله عليه وسلم مقبلا على مرحلة جديدة في الدعوة وهي الهجرة وبناء الدولة، فأراد الله تعالى أن يكون البناء سليما قويا، فجعل في الإسراء والمعراج الاختبار والتمحيص والتمييز بين الضعاف والمترددين والذين في قلوبهم مرض، وبين الأقوياء الصادقين الثابتين، جاء في حديث البيهقي ''··· ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فأخبر أنه سرى به فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه''·
شجاعة عالية ومواجهة لباطل المشركين
لقد واجه صلى الله عليه وسلم المشركين بأمر تنكره عقولهم، ولم يمنعه من ذلك الخوف من مواجهتهم ليقينه بما معه من الحق أمام أهل الباطل، وتبين الروايات كما في ''البداية'' من رواية ابن إسحاق أنهم تحدوه لأنهم يعرفون أنه لم يسبق له زيارة بيت المقدس، فأظهر الله له علامات تلزمهم بالتصديق إن كانوا عاقلين وهي:
ـ وصف النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس حتى قال قائلهم أما الوصف فصدق·
ـ إخباره عن مشاهداته في طريق العودة مثل العير التي بالروحاء وعن العير الثانية وعن العير الثالثة التي بالأبواء، وقد تأكد المشركون ووجدوا ذلك صحيحا عند سؤال الناس عن عيرهم·
الثقة المطلقة في الرسول ضرورة إيمانية
تظهر هذه الحقيقة في سلوك أبي بكر رضي الله عنه عندما أخبره الكفار بما أخبرهم به محمد صلى الله عليه وسلم، قال بلسان الواثق: ''لئن كان قال ذلك لقد صدق'' ثم قال: ''إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة''· وبهذا استحق أبو بكر الصديق هذا اللقب والوصف ''الصديق'' ولا يتم الإيمان إلا بهذا التصديق في كل زمان ومكان·
الإسلام دين الفطرة البشرية
في المعراج شرب الرسول صلى الله عليه وسلم اللبن حين خير بينه وبين الخمر، قال في رواية البخاري ''ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن، فقال هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك''، فبشارة جبريل عليه السلام تؤكد أن هذا الإسلام دين الفطرة البشرية التي ينسجم معها، فالذي خلق الفطرة البشرية خلق لها هذا الدين ملبيا احتياجاتها ومحققا نوازعها ومهذبا انحرافاتها ''فأقم وجهك للدين حنيفا''·
الأنبياء يسلمون القيادة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم
إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء دليل على أنهم سلموا له بقيادة البشرية، وأن شريعة الإسلام نسخت الشرائع السابقة، وأن أتباع الأنبياء ملزمون بتسليم القيادة لهذا الرسول ولرسالته الكاملة التامة كما فعل أنبياؤهم ''ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين''·
المسجد الحرام والمسجد الأقصى أخوان
إن الرابط بين المسجدين في هذه الرحلة المباركة يدل على أهمية المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين، فهو مسرى رسولهم ومعراجه وقبلتهم الأولى، فهم يحبونه ويقدسونه ويتحملون مسؤوليتهم نحوه فيعملون على تحريره من أيدي المحتلين الغاصبين المشركين، وهم بهذا الربط يشعرون بأن تهديد المسجد الأقصى هو تهديد للمسجد الحرام ومقدمة وبوابة لاحتلاله، وخريطة دولة اليهود المنتظرة التي وزعوها في أوروبا بعد انتصارهم في حرب 1967 شملت الخليج العربي كله، ومن الفرات إلى النيل، وهيهات هيهات وفي أمة الإسلام -شرقا وغربا- عرق للمقاومة والجهاد ينبض· وما حرب لبنان السادسة منا ببعيدة·
وفي ليلة الإسراء والمعراج مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كلما حصدوا عادوا كما كان فأخبر جبريل ''هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنات بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فهو يُخلف'' الخصائص الكبرى·
يتبع...
الروابط المفضلة