كان الأمير " موسى بن سليمان الهاشمي" من أنعم أبناء أبيه عيشاً ، وأرخاهم بالاً ، يُعطي نفسه مرادها من جميع اللذات!! ، مع ثرائه الواسع وغناه الوافر ، يجري عليه من ضياعه وعقاراته كل عام قرابة ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف درهم ، وكانت له قبة على موضع عالٍ ، يجلس فيها بالعشيات ينظر إلى الناس ، والى بساتينه وأراضيه ، وكانت تلك القبة من العاج مخروطة من أنياب الفيل مضببة بالفضة قد طُلي بالذهب، وعلّق من القبة سلسلة ذهب منظومةً بالجواهر واللؤلؤ ، تضيء القبة من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ، والعقيق الأصفر ، كل حبة كالجوزة ، وعلّق على الأبواب المشرعة الستور الُضرّبة الموشاة المنسوجة بالذهب ومعه في القبة ندماؤه واصدقاؤه ، والمجامر منصوبة لاترفع عن البخور وقد وقف على رأسه الخدم بأيديهم المراوح ، ووقف المغنيات والراقصات بحذائه في مجلس خارج القبة يراهن ، فإذا نظر عن يمينه رأى نديما قد اصطفاه ، وإن نظر عن يساره رأى أخا وصفيّاً قد اجتباه ، وإن رفع طرفه نظر إلى خدم قيام قد اختارهم ، فإن تكلم سكتوا ، وإن قام قاموا ، هذا دأبه وحاله إلى أن يذهب الليل ويذهب عقله ، فيخرج الندماء ويخلو مع الوصفاء والمغنيات ، فإذا أصبحَ اشتغلَ بالنظر إلى لعاّبين بين يديه بالنرد والشطرنج ، لا يُذكر بين يديه موتٌ ولاسقمٌ ولا مرض!! ، فبينما هو في قبته تلك، ذات ليلة وحوله الندماء والوصفاء ، وقد مضى بعض الليل ، إذ سمع نغمة من حلقٍ ندِيّ شجِيّ ، خلاف ما يسمع من مطربيه ، فأخذت بمجامع قلبه ، وسلبت فؤاده ، فأشار إلى من حوله : أن اسكتوا ، وأخرج رأسه من نافذةٍ يتسّمعُ الصوت الذي وقع بقلبه ، ثم صاح بغلمانه : اطلبوا صاحب هذا الصوت !! فخرج الغلمان يطوفون فإذا هُم بشابٍ نحيل الجسم ، شعث الرأس ، حافي القدمين ، قائم في المسجد يُناجي ربه ويصلي ويقرأ القرآن !! ، فأخذوه وأدخلوه على الأمير ، وأخبروه أنهم وجدوه في المسجد قائماً يصلي !! فقال الأمير لذلك الشاب : ماكنتَ تقرأ ؟!! ، قال : كلام الله !! قال : فأسمعني بتلك النغمة !! ، فقرأ الشاب : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : }إن الأبرار لفي نعيم{ إلى قوله }يشربُ بها المُقربون{ المطففين 22 – 28 ، ثم قال له : أيها الأمير المغرور !! إنها خلاف مجلسك وفرشك ، إنها أرائك مفروشة بفُرُشٍ مرفوعة (( بطائنها من استبرق )) ، (( على رَفرفٍ وعُبقري حِسانٍ)) ،
يشرف وليّ الله منها على عينين تجريان في جنتين : (( فيهما من كل فاكهةٍ زوجان)) ، (( لا مقطوعةٍ ولا ممنوعة)) ، (( في ظِلالٍ وعيونٍ)) ، (( أُكلها دائمٌ وظِلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار)) ، (( لا يُفترُ عنهم وهم فيه مبلسون )) ، (( في ضلالٍ وسُعُرٍ يوم يُسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس ّسَقر ))، (( يودّ المجرمُ لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه )) ، وهم في جهد جهيدٍ وعذابٍ شديد، ومقتٍ من رب العالمين ،
فقام الأمير الهاشمي عن مجلسه وعانق الشاب وبكى ، وصاح بندمائه : انصرفوا عني ، وخرج إلى صحن داره وقعد على حصير مع ذلك الشاب ينوح ويبكي على شبابه وذنوبه الماضيات ، والشاب يعظه وينصحه إلى أن أصبح وقد عاهد الله على ألاّ يعود إلى المعاصي أبداً ، ثم رّد المظالم إلى أهلها وعتق عُبيدة وجواريه ، وتصدق بالكثير من أمواله ، ثم اجتهد في العبادة ، فكان يصوم النهار ويقوم الليل ، حتى كان إخوانه الصالحين يعاتبونه ويقولون له : ارفق بنفسك ، فإن المولى كريم ، يشكر اليسير ويثيب على الكثير ، فكان يقول لهم : يا قوم أنا أعرف بنفسي ، إن جرمي عظيم ، فقد عصيتُ مولاي بالليل والنهار، وكان يبكي كثيراً ، ثم أنه خرج إلى بيت الله الحرام حاجاً ، وكان يدخل "الحجر" بالليل ينوح على نفسه ويقول : سيدي لم أراقبك في خلواتي!! ، سيدي ذهبت شهواتي ، وبقيت تبعاتي وحسراتي !! ، فالويل لي يوم ألقاك والويل كل الويل من صحيفتي إذا نُشرت مملوءة من فضائحي وخطاياي ، بل حّل بي الويل من مقتك إيايَ وتوبيخك لي في إحسانك اليّ ومقابلتي نعمتك بالمعاصي ، وأنت مُطّلع على أفعالي ، سيدي إلى من أهرب إلاّ إليك ؟!! والى من التجىء إلاّ إليك ؟!! سيدي إني لا أستحق أن أسألك الجنة ، بل أسألك بجودك وكرمك وتُفضّلك أن تغفر لي وترحمني ، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة. ( &)
الروابط المفضلة