لقد أثارت هذه الآية (واستشهد شهيدين من رجالكم فإن لم يكونان رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) البقرة/ 282، وحديث ((ناقصات عقل ودين)) حفيظة الرجال، وجعلتهم يترددون في معاملة النساء إنساناً كامل الأهلية، تام القدرات العقلية والفكرية! فكانت بالتالي قضية الشهادة من القضايا المهمة التي أحزنت النساء، وأثارت شجونهن، وجعلتهن هن الأخريات يتشككن في قدراتهن وتمام عقولهن مقارنة بالرجال! وأدت إلى تمنيهن الذكورة:
1 ـ فهل تعلمين أن شهادة المرأة وحدها تقبل في هلال رمضان شأنها شأن الرجل؟
2 ـ وهل تعلمين أن شهادة المرأة قبلت في الأمور الخاصة بالنساء؟ قال ابن قدامة في المغني: ((ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال مثل الرضاعة والولادة والحيض والعدة وما أشبهها شهادة امرأة عدل. ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة))، ويوضح الحكم في موضع آخر فيقول: ((تقبل شهادة النساء وحدهن ـ منفردات عن الرجال ـ في خمسة أشياء: 1 ـ الولادة، 2 ـ الاستهلال، 3 ـ الرضاع، 4 ـ العيوب التي تحت الثوب كالرتق، والقرن، والبكارة، والثيبوبة، والبرص، 5 ـ انقضاء العدة ... وعن أحمد رواية أخرى: أنه لا يقبل في الرضاع إلا امرأتان. فإن شهد الرجل بشيء من ذلك فقد تقبل شهادته وحده)).
3 ـ وهل تعلمين أنه تقبل شهادة المرأة الواحدة؟ قال ابن قدامة: ((وكل موضع تقبل فيه شهادة النساء المنفردات فإنه تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة)). وجاء في حاشية ابن عابدين ما يلي: (( (وتقبل في البكارة وعيوب النساء وما لا يطلع عليه الرجال) امرأة واحدة حرة مسلمة والثنتان أحوط)). ويقول وهبي سليمان غاوجي الألباني: ((أما ما يتعلق بأمور المرأة فشهادة المرأة فيه مقبولة، بل شهادتها وحدها كافية حيث لا تقبل شهادة الرجل وحده)). وجاء في الحديث: ((سأل عقبة بن الحارث النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: إني تزوجت امرأة. فجاءت أمة سوداء فقالت: إنها أرضعتنا؟ فأمره بفراق امرأته. فقال: إنها كاذبة. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): دعها عنك))، وقد علق ابن القيم فقال: ((ففي هذا قبول شهادة المرأة الواحدة، وإن كانت أمة وشهادتها على فعل نفسها)).
وقد علق معروف الدواليبي بكلام جميل على هذا فقال: ((إن الشريعة الإسلامية اتجهت إلى تعزيز الشهادة في القضايا المالية بصورة مطلقة بشهادة رجل آخر، إلى جانب الرجل الأول، حتى لا تكون الشهادة عرضة للاتهام. ولم يعتبر أحد تنصيف شهادة الرجل هنا وتعزيزها بشهادة رجل آخر ماساً بكرامته ما دام ذلك التعزيز أضمن لحقوق الناس. وزيادة على ذلك فإن شهادة الرجل لم تقبل قط ((وحده)) حتى في أتفه القضايا المالية. غير أن المرأة قد امتازت على الرجل في سماع شهادتها ((وحدها))، دون الرجل، فيما هو أخطر من الشهادة على الأمور التافهة، وذلك كما هو معلم في الشهادة على الولادة وما يلحقها من نسب وإرث، بينما لم تقبل شهادة الرجل ((وحده)) في أتفه القضايا المالية وفي هذا رد بليغ على مَن يتهم الإسلام بتمييز الرجل على المرأة في الشهادة)). فلماذا لم يعتبر الرجل عدم قبول شهادته منفرداً عيباً فيه ونقصاً في كمال عقله؟ ولماذا لم يعترض؟ وكذلك المرأة ينبغي أن تثق بنفسها وترضى بحكم ربها.
وهل تعلمين ـ إذن ـ أن في قبول شهادة المرأة في أمور النساء، وقبول شهادة المرأة الواحدة دليلاً قوياً على كامل أهليتها؟ ولو كان النقص في تمام عقل المرأة حقيقياً لا مجازياً لما أجاز الإسلام شهادتها في أي أمر من الأمور، لكن الإسلام قبل شهادة المرأة في شؤون النساء مع ما للشهادة من أهمية، ومع ما قد تجر إليه من أحكام وأحوال، فشهادة الزور أو الشهادة غير الموثقة في مثل هذه الأمور قد يترتب عليها ضرر كبير لأنها قد تؤدي إلى طلاق أو تمنع زواجاً، أو تؤدي إلى خطورة بالغة لو حدث فيها خطأ فتخلط أنساباً، وتحرم إرثاً ...
4 ـ وهل تعلمين أن الأولوية في الشهادة تكون للنساء في أمورهن، فبعد أن تحدث محمد سعيد رمضان البوطي عن شهادة الرجلين في الأمور الجنائية قال: ((وعلى العكس من ذلك شهادة المرأة في أمور الرضاع والحضانة والنسب ونحو ذلك، فإن الأولوية الشرعية فيها لشهادة المرأة، إذ هي أكثر اتصالاً بهذه المسائل من الرجل، كما هو واضح ومعروف. بل روي عن الشعبي أنه قال: من الشهادات ما لا يجوز فيه إلا شهادة النساء. (نقلاً عن الطرق الحكمية لابن القيم: ص145) )). ويضيف في نفس الكتاب: ((لو كان الأمر كذلك (يقصد الهبوط بالمرأة عن الرجل) لما كانت الأولوية لشهادة المرأة في أمور الرضاعة والحضانة والنسب، وغيرها مما تقوم الصلة فيه مع النساء أكثر من الرجال، ولما كانت الأولوية لشهادة النساء في كل خصومة جرت بين النساء بعضهن مع بعض، أياً كان سببها)).
5 ـ وهل تعلمين أن شهادة المرأة تقدم أحياناً على شهادة الرجل بعد سماع الشهادتين: ((يثبت خيار الفسخ لكل واحد من الزوجين لعيب يجده في صاحبه ... وإن اختلفا في عيوب النساء أريت النساء الثقات ويقبل فيه قول امرأة واحدة، فإن شهدت بما قال الزوج وإلا فالقول قول المرأة)).
6 ـ وهل تعلمين أن شهادة النساء تقبل أحياناً في الأمور الجنائية في حين لا يلتفت إلى شهادة الرجال؟! وذلك في الحالات التي ذكرها مصطفى الزرقا: (( (شهادة المرأة وحدها) تقبل في بعض الحالات هي: أن يكون الحدث الذي ستشهد عليه المرأة يقع في مكان لا يوجد فيه رجال كحمامات النساء ... فتقبل شهادة النساء وحدهن في الجرائم التي تقع في حماماتهن)).
7 ـ وهل تعلمين أن العلة ـ في تنصيف شهادة المرأة في بعض القضايا ـ ليست في عقل المرأة؟ إنما العلة كما قالت الآية: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) والمرأة لا تضل إن كانت عدلاً فيما يتعلق بمهامها وعالمها، إنما قد تضل في غيره: ((أما ما كان من الشهادات مما لا يخاف فيه الضلال في العادة لم تكن فيه المرأة على النصف من الرجل، وتقبل فيه شهادتهن منفردات لأنها أشياء تراها بعينها أو تلمسها بيدها أو تسمعها بأذنها من غير توقف على العقل كالولادة والارتضاع والحيض والعيوب تحت الثياب، فإن مثل هذا لا ينسى في العادة ولا تحتاج معرفته إلى إعمال العقل. وقال ابن قيم الجوزية: ((والمرأة العدل كالرجل في الصدق والأمانة والديانة إلا أنها لما خيف عليها السهو والنسيان قويت بمثلها، وذلك قد يجعلها أقوى من الرجل الواحد أو مثله)).
وهل تعلمين بماذا علل محمد سعيد رمضان البوطي أن شهادة المرأتين برجل؟ ((إن الشروط التي تراعى في الشهادة، ليست عائدة إلى وصف الذكورة والأنوثة في الشاهد، ولكنها عائدة بمجموعها إلى أمرين إثنين: أولهما عدالة الشاهد وضبطه ... ثانيهما: أن تكون بين الشاهد والواقعة التي يشهد بها، صلة تجعله مؤهلاً للدراية بها والشهادة فيها ... ومن المعلوم أنه إذا ثبت لدى القاضي اتصاف هذا (الشاهد) بهذه الصفات (أي رقة المشاعر والعاطفة) فإن شهادته تصبح غير مقبولة. إذ لابد أن يقوم من ذلك دليل على أن صلته بالمسائل الجرمية وقدرته على معاينتها ضعيفة أو معدومة، وهو الأمر الذي يفقده أهليته للشهادة عليها ... وأخيراً نقول: لو كانت الأنوثة والذكورة تلعبان دوراً في قيمة الشهادة ومدى شرعيتها لسمت شهادة المرأة في باب اللعان، أي لكانت شهاداتها الأربع بقيمة شهادتين فقط من شهاداته. ولكن الواقع أنها متساويات ... وقد جعل الله قيمة الشهادات الأربع التي تثبت الزنا، مكافئة لقيمة الشهادات الأربع التي تنكرها. وهو الأمر الذي يؤكد أن الأنوثة والذكورة بحد ذاتهما لا مدخل لأي منهما في قيمة الشهادة)).
8 ـ وهل تعلمين أن الشهادة تختلف عن الرواية؟ وقد قُبلت رواية المرأة الواحدة ـ وما تزال ـ في كل أمر حتى في الحديث: ((فالحديث النبوي الذي روته لنا امرأة عن رسول الله (ص)، له حجية الحديث نفسه الذي يرويه رجل)). ولم يرد أحد قول امرأة لمجرد أنها امرأة، قال الشوكاني: ((لم ينقل عن أحد من العلماء بأنه رد خبر امرأة لكونها امرأة. فكم من سنة قد تلقتها الأمة بالقبول من امرأة واحدة من الصحابة وهذا لا ينكره من له أدنى نصيب من علم السنة)). وقال ابن القيم: ((الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله لم يرد خبر العدل قط، لا في رواية ولا في شهادة، بل قبل خبر العدل الواحد في كل موضع أخبر به ... وقبل شهادة الأمة السوداء وحدها على الرضاعة)).
9 ـ وهل تعلمين أهم ما في الأمر؟ إن قضية الشهادة التي تبدو لأول الأمر تفضيلاً للرجل على المرأة ليست كذلك! وإليك ما يثبت ذلك:
أولاً ـ لا أدري ما هي المكاسب التي ضاعت على المرأة عندما نصفت شهادتها، وما هي الحقوق التي حرمت منها في الدنيا؟ يقول معروف الدواليبي: ((قد خفف الإسلام في القضايا المالية عن المرأة، وجعل شهادة المرأتين فيها تعادل شهادة الرجل الواحد، وذلك حتى ينصرف الناس عن دعوتها للشهادة، وليرجحوا دعوة الرجل ... فتنصيف شهادة المرأة في القضايا المالية لم يكن تنصيفاً لحق، وإنما تخفيفاً لعبء)). ويقول أيضاً: ((إن الشهادة في مفهوم الإسلام بصورة عامة هي ((عبء)) ثقيل يتهرب منه الناس، وليست ((حقاً)) يتزاحمون عليه لينزع منهم. ولذلك فقد نهى القرآن الكريم عن ((التهرب)) من تحمل الشهادة، وقال في ذلك: (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) ... وكذلك حذر القرآن بشدة من ((كتمان الشهادة))، لما في ذلك من تعرض حقوق الناس للضياع، وقال: (ولا تكتموا الشهادة ومَن يكتمها فإنه آثم قلبه)، وقيل في (ولا تكتموا الشهادة): ((أي لا تخفوها وتغلوها ولا تظهروها. قال ابن عباس وغيره: شهادة الزور من أكبر الكبائر وكتمانها كذلك، ولهذا قال: (ومَن يكتمها فإنه آثم قلبه) قال السدي يعني فاجر قلبه، وهذه كقوله تعالى: (ولا نكتم شهادة الله إنا إذاً لمن الآثمين) ))، وعدم كتمان الشهادة معناه الخروج إلى المحكمة، والالتزام بالوقت المحدد للجلسة، وتحمل تبعات ذلك، وفي هذا من العبء ما لا يخفى. وهذا أيضاً ما قاله مصطفى الزرقا: ((إن أداء الشهادة ليس مزية وحقاً في الإسلام، بل هو واجب يتحمل بسببه الشاهد عناء ومشقة، ولذلك نرى الكثير من الناس يكرهون أن يدعوهم القاضي أو الخصوم إلى الشهادة، وبخاصة في قضايا الجنايات والحدود، لأنهم يتعرضون للاستجواب من الخصوم، وللطعن في عدالتهم ... ولا ننسى أن الشريعة ـ في بعض أنواع الحدود كالزنا مثلاً ولدى عدد من الفقهاء ـ تقضي بجلد الشهود إذا لم تكن شهادتهم كافية لإثبات التهمة على المتهم))، وقيل: ((كان عمر بن الخطاب (رض) يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخهم وجهه، ويحلق رأسه، ويطوف به في السوق. وقال أكثر أهل العلم: ولا تقبل له شهادة أبداً وإن تاب وحسنت حاله فأمره إلى الله)).
و ((الشهادة)) ليس من ورائها مكسب مادي ولا معنوي في الدنيا (وأقيموا الشهادة لله): ((أي: لوجهه خالصاً، وذلك أن يقيموها لا للمشهود له، ولا للمشهود عليه، ولا لغرض من الأغراض، سوى إقامة الحق، ودفع الظلم ... وتدل الآية على حظر أخذ الأجرة على أداء الشهادة))، ((أي أدوها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً، خالية من التحريف والتبديل والكتمان)).
ثانياً ـ ما هي المكاسب التي خسرتها المرأة في الآخرة؟ ومكاسب الآخرة أهم لأننا نتحدث مع نساء مسلمات يرجين الآخرة، ويخفن من عذاب الله:
نعم الشهادة لها أجر في الآخرة، وفيها تفريج كرب عن الشاهد والمشهود له في الدنيا، ولكن وسائل الثواب كثيرة بل أكثر من أن تحصى فإن كانت المرأة تبتغي الأجر لتبحث عن سبيل أكثر أمناً من الشهادة، لأن الشهادة بالمقابل أمانة عظيمة وثقيلة: (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) أي اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عادت مضرته عليك ... (أو الوالدين والأقربين) أي وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها، بل اشهد الحق وإن عاد ضررها عليهم))، فهل في العامة اليوم من يتقي الله ويشهد على نفسه؟ فالشهادة مسؤولية وأمانة، وعلى الشاهد أن يتحرى الصدق، وأن يتقي الله: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). ويقر على ما رآه بنفسه، أو سمعه بأذنه، لا عما سمعه من الآخرين: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)). وروي عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لرجل: ((ترى الشمس؟! فقال الرجل: نعم، فقال النبي: على مثلها فاشهد أو دع))، فعلى الشاهد أن يصف ما رآه، وأن يتلو ما سمعه، بدقة وبعبارة واضحة، ولا يقول إلا ما علمه يقيناً، حتى ينقل صورة صادقة (ولو كانت ناقصة، فقد يكمل نقصها الشاهد الثاني)، وعادة تتابع الحادثة بسرعة ويصعب سرد تفاصيلها بدقة ... وهذا أمر خطير ـ إن حصل ـ لما يترتب عليه من مضار، مع الخشية من وقوع الشاهد في الإثم إن شهد وهو غير متيقن.
فالشهادة أمر خطير، وشيء مخيف فيه شبهة: ((فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)).