حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ
أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْجُبْ نِسَاءَكَ فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي عِشَاءً وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً فَنَادَاهَا عُمَرُ أَلَا قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ
حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَدْ أُذِنَ أَنْ تَخْرُجْنَ فِي حَاجَتِكُنَّ قَالَ هِشَامٌ يَعْنِي الْبَرَازَ
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قَوْله : ( حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن بُكَيْر )
تَقَدَّمَ هَذَا الْإِسْنَاد بِرُمَّتِهِ فِي بَدْء الْوَحْي , وَفِيهِ تَابِعِيَّانِ عُرْوَة وَابْن شِهَاب , وَقَرِينَانِ اللَّيْث وَعَقِيل .
قَوْله : ( الْمَنَاصِع )
بِالنُّونِ وَكَسْر الصَّاد الْمُهْمَلَة بَعْدهَا عَيْن مُهْمَلَة جَمْع مَنْصَع بِوَزْنِ مَقْعَد وَهِيَ أَمَاكِن مَعْرُوفَة مِنْ نَاحِيَة الْبَقِيع , قَالَ الدَّاوُدِيّ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَان يَنْصَع فِيهَا أَيْ : يَخْلُص . وَالظَّاهِر أَنَّ التَّفْسِير مَقُول عَائِشَة . وَالْأَفْيَح بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة الْمُتَّسِع .
قَوْله : ( اُحْجُبْ )
أَيْ اِمْنَعْهُنَّ مِنْ الْخُرُوج مِنْ بُيُوتهنَّ ; بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَر بَعْد نُزُول آيَة الْحِجَاب قَالَ لِسَوْدَةَ مَا قَالَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَرَادَ أَوَّلًا الْأَمْر بِسَتْرِ وُجُوههنَّ , فَلَمَّا وَقَعَ الْأَمْر بِوَفْقِ مَا أَرَادَ أَحَبَّ أَيْضًا أَنْ يَحْجُب أَشْخَاصهنَّ مُبَالَغَة فِي التَّسَتُّر فَلَمْ يُجَبْ لِأَجْلِ الضَّرُورَة , وَهَذَا أَظْهَر الِاحْتِمَالَيْنِ . وَقَدْ كَانَ عُمَر يَعُدّ نُزُول آيَة الْحِجَاب مِنْ مُوَافَقَاته كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِير سُورَة الْأَحْزَاب , وَعَلَى هَذَا فَقَدْ كَانَ لَهُنَّ فِي التَّسَتُّر عِنْد قَضَاء الْحَاجَة حَالَات : أَوَّلهَا بِالظُّلْمَةِ لِأَنَّهُنَّ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ دُون النَّهَار كَمَا قَالَتْ عَائِشَة فِي هَذَا الْحَدِيث " كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ " وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث عَائِشَة فِي قِصَّة الْإِفْك " فَخَرَجَتْ مَعِي أُمّ مِسْطَح قِبَل الْمَنَاصِع , وَهُوَ مُتَبَرَّزنَا , وَكُنَّا لَا نَخْرُج إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْل " اِنْتَهَى . ثُمَّ نَزَلَ الْحِجَاب فَتَسَتَّرْنَ بِالثِّيَابِ , لَكِنْ كَانَتْ أَشْخَاصهنَّ رُبَّمَا تَتَمَيَّز ; وَلِهَذَا قَالَ عُمَر لِسَوْدَةَ فِي الْمَرَّة الثَّانِيَة بَعْد نُزُول الْحِجَاب : أَمَا وَاَللَّه مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا , ثُمَّ اُتُّخِذَتْ الْكُنُف فِي الْبُيُوت فَتَسَتَّرْنَ بِهَا كَمَا فِي حَدِيث عَائِشَة فِي قِصَّة الْإِفْك أَيْضًا فَإِنَّ فِيهَا " وَذَلِكَ قَبْل أَنْ تُتَّخَذ الْكُنُف " , وَكَانَ قِصَّة الْإِفْك قَبْل نُزُول آيَة الْحِجَاب كَمَا سَيَأْتِي شَرْحه فِي مَوْضِعه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَوْله : ( فَأَنْزَلَ اللَّه الْحِجَاب )
وَلِلْمُسْتَمْلِيّ " آيَة الْحِجَاب " زَادَ أَبُو عَوَانَة فِي صَحِيحه مِنْ طَرِيق الزُّبَيْدِيّ عَنْ اِبْن شِهَاب " فَأَنْزَلَ اللَّه الْحِجَاب ( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوت النَّبِيّ ) الْآيَة " , وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِير الْأَحْزَاب أَنَّ سَبَب نُزُولهَا قِصَّة زَيْنَب بِنْت جَحْش لَمَّا أَوْلَمَ عَلَيْهَا وَتَأَخَّرَ النَّفَر الثَّلَاثَة فِي الْبَيْت وَاسْتَحْيَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرهُمْ بِالْخُرُوجِ فَنَزَلَتْ آيَة الْحِجَاب , وَسَيَأْتِي أَيْضًا حَدِيث عُمَر " قُلْت : يَا رَسُول اللَّه إِنَّ نِسَاءَك يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ الْبَرّ وَالْفَاجِر , فَلَوْ أَمَرْتهنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ , فَنَزَلَتْ آيَة الْحِجَاب " , وَرَوَى اِبْن جَرِير فِي تَفْسِيره مِنْ طَرِيق مُجَاهِد قَالَ : بَيْنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ بَعْض أَصْحَابه وَعَائِشَة تَأْكُل مَعَهُمْ إِذْ أَصَابَتْ يَد رَجُل مِنْهُمْ يَدهَا , فَكَرِهَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ آيَة الْحِجَاب . وَطَرِيق الْجَمْع بَيْنهَا أَنَّ أَسْبَاب نُزُول الْحِجَاب تَعَدَّدَتْ , وَكَانَتْ قِصَّة زَيْنَب آخِرهَا لِلنَّصِّ عَلَى قِصَّتهَا فِي الْآيَة , وَالْمُرَاد بِآيَةِ الْحِجَاب فِي بَعْضهَا قَوْله تَعَالَى : ( يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبهِنَّ ) .
وَقَوْله : ( حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا )
هُوَ اِبْن يَحْيَى . وَسَيَأْتِي حَدِيثه هَذَا فِي التَّفْسِير مُطَوَّلًا , وَمُحَصَّله أَنَّ سَوْدَة خَرَجَتْ بَعْدَمَا ضُرِبَ الْحِجَاب لِحَاجَتِهَا - وَكَانَتْ عَظِيمَة الْجِسْم - فَرَآهَا عُمَر بْن الْخَطَّاب فَقَالَ . يَا سَوْدَة , أَمَا وَاَللَّه مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا فَانْظُرِي كَيْف تَخْرُجِينَ . فَرَجَعَتْ فَشَكَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَعَشَّى , فَأُوحِيَ إِلَيْهِ , فَقَالَ : إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ . قَالَ اِبْن بَطَّال : فِقْه هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ يَجُوز لِلنِّسَاءِ التَّصَرُّف فِيمَا لَهُنَّ الْحَاجَة إِلَيْهِ مِنْ مَصَالِحهنَّ , وَفِيهِ مُرَاجَعَة الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى فِيمَا يَتَبَيَّن لَهُ أَنَّهُ الصَّوَاب وَحَيْثُ لَا يَقْصِد التَّعَنُّت , وَفِيهِ مَنْقَبَة لِعُمَر , وَفِيهِ جَوَاز كَلَام الرِّجَال مَعَ النِّسَاء فِي الطُّرُق لِلضَّرُورَةِ , وَجَوَاز الْإِغْلَاظ فِي الْقَوْل لِمَنْ يَقْصِد الْخَيْر , وَفِيهِ جَوَاز وَعْظ الرَّجُل أُمّه فِي الدِّين لِأَنَّ سَوْدَة مِنْ أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ , وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْتَظِر الْوَحْي فِي الْأُمُور الشَّرْعِيَّة ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرهُنَّ بِالْحِجَابِ مَعَ وُضُوح الْحَاجَة إِلَيْهِ حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَة , وَكَذَا فِي إِذْنه لَهُنَّ بِالْخُرُوجِ . وَاَللَّه أَعْلَم
الروابط المفضلة