ثم تتقارب أطراف الصفوف، فيطيف أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم به وهو جالس في مصلاه، مقبلٌ بوجهه إليهم، فيُسْفِرُ لهم ضوءُ الصباح
عن ضياء وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما بدأهم بموعظة، كما في حديث العِرباض بن سَارية رضي الله عنه قال:
وعظنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا بعد صلاة الفجر موعظةً بَلِيغةً، ذَرَفَتْ منها العيونُ، ووَجِلَتْ منها القلوبُ، فقال رجلٌ:
إن هذه موعظةُ مُوَدِّع؛ فماذا تعهدُ إلينا يا رسولَ الله؟قال:
«
أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإنْ عبدٌ حبشيٌّ، فإنه مَن يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنها ضلالةٌ، فمَن أدرك ذلك منكم فعليه بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذ »
مسند أحمد .
ولم يكن النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يكثر عليهم هذه العِظات، وإنما كان يتخوَّلهم بها ويتعاهدهم من غير إملال.
وقد يتحدَّث إليهم، كما صلى مرة الصبحَ، ثم أقبل على الناس، فقال:
«
بينمارجلٌ يسوقُ بقرةً له قد حمل عليها، التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أُخْلقُ لهذا،ولكني إنما خُلقت للحرث؟! ».
فقال الناسُ:
سبحان الله -تعجُّبًا وفزعًا-: أبقرةٌ تكلَّمُ؟!
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «
فإني أُومِنُ به وأبو بكر وعمر»
ثم قال:
«
بينا راعٍ في غنمه عدا عليه الذئب، فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئبُ فقال له:
مَن لها يوم السَّبُعِ، يوم ليس لهاراعٍ غيري؟! ».
فقال الناسُ:
سبحان الله.
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «
فإني أُومِنُ به أنا وأبو بكر وعمر»
صحيح مسلم والبخاري .
ولم يكن أبو بكر وعمر حاضرين حينها، ولكن شهد النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإيمانهما؛ ليقينه منه، رضي الله عنهما.
وربما أقبل عليهم إذا اجتمعوا حوله فقال لهم:
«
هل فيكم مريضٌ نعودُه؟ » فإن قالوا:
لا.
قال: «
هل فيكم جنازة نشهدها؟ ». فإن قالوا:
لا.
قال: «
مَن رأى منكم رؤيا، فليَقُصَّها علي أَعْبرها؟؟ ». فيقصُّون عليه رُؤاهم، فيَعْبرها لهم، أويقول لهم ما شاء الله أن يقول .
ومن ذلك حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال:
رأيتُ رؤيا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رأيتُ كأني في رَوْضَة -ذكر من سَعَتِها
وخُضْرَتها- وسْطَها عمودٌ من حديد، أسفلُهُ في الأرض، وأعلاهُ في السماء، في أعلاه عُروةٌ، فقيل لي:
ارْقَ. قلتُ: لا أستطيعُ. فأتاني مِنْصَفٌ فرفع ثيابي من خلفي، فرَقِيتُ حتى كنتُ في أعلاها، فأخذتُ بالعُروة، فقيل له: اسْتَمْسك.فاستيقظتُ وإنها لفي يدي، فقصصتُها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال:
«
تلك الروضةُ: الإسلامُ، وذلك العمودُ: عمودُ الإسلام، وتلك العُروة: عُروةُ الوثقى، فأنت على الإسلام حتى تموتَ»
صحيح البخاري ومسلم .
وقال مرَّة لأصحابه رضي الله عنهم:
«
مَن رأى منكم رؤيا فليَقُصَّها؛ أَعْبرها له ».
فقال رجلٌ: يا رسولَ الله، إني أرى الليلة في المنام ظُلَّةً تَنْطِفُ السمنَ والعسلَ،فأَرَى الناسَ يتكَفَّفونَ منها بأيديهم، فالمستكثِرُ والمستقِلُّ، وأَرَى سَبَبًا واصلاً من السماء إلى الأرض، فأَرَاك أخذتَ به فعلوتَ، ثم أخذَ به رجلٌ من بعدك فَعَلا ،َثم أخذَ به رجلٌ آخرُ فَعَلا ،َ ثم أخذَ به رجلٌ آخرُ فانقطع به، ثم وُصِل له فَعَلا .
قال أبو بكر: يا رسولَ الله، بأبي أنت،والله لَتَدَعَنِّي فَلَأَعْبرنها .
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «
اعبرها».
قال أبو بكر:
أما الظُّلَّةُ، فظُّلَّةُ الإسلام،وأما الذي يَنْطِفُ من السمن والعسل، فالقرآن، حلاوتُه ولينُه، وأما ما يَتَكَفَّفُ الناسُ من ذلك، فالمستكثرُ
من القرآن والمستَقِلُّ، وأما السَّبب الواصل من السماءإلى الأرض، فالحقُّ الذي أنت عليه، تأخذ به فيُعْليكَ اللهُ به، ثم يأخذُ
به رجلٌ من بعدك، فيعلو به، ثم يأخذُ به رجلٌ آخرُ فيعلو به، ثم يأخذُ به رجلٌ آخرُ فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني
يا رسولَ الله بأبي أنت، أصبتُ أم أخطأتُ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
«
أصبتَ بعضًا، وأخطأتَ بعضًا».
قال: فوالله يا رسولَ الله، لتُحَدِّثَنِّي ما الذي أخطأتُ؟ قال: «
لا تُقسمْ »
صحيح البخاري ومسلم .
ويلاحظ أن رُؤى الصحابة رضي الله عنهم التي كانوا يقصُّونها على النبي صلى الله عليه وسلم تفيضُ بهمِّهم الأكبر
وقضيتهم الأولى، وهو دينهم ونبيهم، فهم يعيشونه جهدًا وجهادًا في يقظتهم، ورؤًى في منامهم
فيا لله!
أي نفوس تلك التي كانت تَطِيفُ برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيمتد همُّها به من يقظتها إلى منامها وأحلامها!
وربما حدَّثهم صلى الله عليه وسلم برؤيا رآها هو، فيقصُّها عليهم ويَعْبرها لهم رضي الله عنهم؛ كما في
حديث سمرة رضي الله عنه قال: سَأَلَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال:
«
هل رأى أحدٌ منكم رؤيا؟» قلنا: لا.
قال: «
لكنِّي رأيتُ الليلةَ رجلين آتياني، فأخذا بيدي، فأخرجاني إلى الأرض المقدَّسة... ».
ثم ذكر حديث الرُّؤيا الطويل، وفيه ذكر بعض أحوال المعذَّبينَ، وما يعذَّبونَ عليه، وذكر بعض أحوال الآخرة)
صحيح البخاري و مسلم.
ويتحدَّث الصحابةُ في هذا المجلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم،فيشاركهم الحديثَ والاستماع، فربما تحدَّثوا
عن حياتهم في الجاهلية، وما كانوا يقعون فيه من أُحموقات الجهل التي تَبَدَّى لهم عَوَارُها بعد أَنْ مَنَّ اللهُ
عليهم بالإسلام، فإذا ذكروها ضحكوا من جهلهم في الجاهلية، ويتبسَّم رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان ضحكه تبسُّما ،ً ولا يزال صلى الله عليه وسلم في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء.
ثم يقوم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى حُجر نسائه، فإذا دخل البيتَ قال:
«
اللهمَّ إني أسألُكَ خيرَ المَوْلَجِ، وخيرَ المَخْرَجِ، بسم الله وَلَجْنا،وبسم الله خَرَجْنا، وعلى الله ربِّنا توكَّلنا »
صحيح مسلم والبخاري .
وأول شيء يبدأ به إذا دخل بيته السِّواك، يطيِّب به فمه المطيَّب، ويسلِّم على أهله قائلاً:
«
السلامُ عليكم، كيف أنتم يا أهلَ البيت؟ .»
ويطوف على نسائه، يدخل على كل واحدة في حُجرتها، يسلِّم عليهنَّ ويدعولهنَّ، ولا يطيل المُكث.
فربما دخل على إحداهن وهي في مصلاه وخرج وهي على حالها، كما دخل على جُوَيْرِيةَ رضي الله عنها وهي في مصلاه تذكر الله، وخرج وهي على حالها من الذكر.وربما سألَ عن الطعام، فقال:
«
هل عندكم شيء؟ ».
فإن كان ثمةَ طعام قُرِّب إليه، وغالبًا ما يكون طعامًا خفيفًا، كالتمر والحَيْس والأَقِط، أو شرابًا، كاللبن
أو النَّبيذ، ونحو ذلك، وربما سأل فيقولون:
يا رسولَ الله، ما عندنا شيء. فيقول: «
فإني إذًا صائم »
صحيح مسلم والبخاري .
الروابط المفضلة