حكم المستهزئ بآيات الله تعالى


إن الحكم بالكفر على المستهزئ بالله وآياته ورسوله واضح وجلي من آية التوبة آنفة الذكر في قوله تعالى: ]لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ[ وهي نص في ذلك كما تقدم.

والكفر بعد الإيمان ردة، فمن كان مسلماً مؤمناً وصدر منه استهزاء وسخرية على نحو ما فعله أولئك النفر كفر وخرج من الإسلام بنص القرآن، ولا دليل لمن قال: إن الآية نزلت في حق طائفة من النافقين ما دخلوا الإسلام قط إلا أنهم يفهمون ذلك من قوله تعالى أول القصة: ]يحذر المنافقون ...[ ونسي هؤلاء أن الله تعالى قد أثبت لهم الإيمان ابتداءً ثم وصفهم بالنفاق بعد مقالتهم هذه، وهذه المقالة هي التي جعلت القرآن يصفهم بهذه الصفة، والقرآن نزل بعد الحادثة لا قبلها، وبعد الحادثة كانوا قد نافقوا!!. وقد ينطبق على البعض انطباق هذا الحكم على من حسن حاله الظاهر كأن يكون ذا صلاة وجهاد ثم يكفر بكلمة صغيرة ليس يقصد منها سوى إضحاك إخوانه وتلطيف الجو لهم، وإدخال السرور إلى قلوبهم!
وجواب هذا الإشكال أن نعلم أولاً أنّ الذين نزلت فيهم آية التوبة كانوا راجعين من غزوة تبوك، وقد خرجوا للجهاد مع رسول الله e.. ولا شك أنهم كانوا من أهل العبادات الظاهرة الأخرى كالصلاة وغيرها، فلا تمنع العبادات الظاهرة صاحبها من أن يكون كافراً أو مشركاً، ولا نعلم أحداً من الأئمة جعل الأعمال الصالحة الظاهرة ضابطاً لإيمان صاحبها باطناً.
والإيمان عندنا نحن أهل السنة والجماعة؛ قول وعمل.
والعمل له محلان هما: القلب والجوارح.
فقول اللسان كالتلفظ بالشهادتين وقول القلب هو التصديق والإقرار والمعرفة ويسمى ﺒ((الاعتقاد)) وعمل القلب محبة خالقه وخوفه وتعظيمه وما إلى ذلك، وعل الجوارح كالعبادات الظاهرة من صلاة وحج وجهاد، ونحوها.
وأهل السنة والجماعة متفقون على كفر من انتفى عنده أحد القولين فلا يكون العبد مؤمناً حتى يؤمن بلسانه وقلبه قولاً وبجوارحه وقلبه عملاً، وهم لا يكفرون أحداً حتى يظهر منه ناقض من نواقض الإيمان؛ يصر عليه بعد البيان.
أما معرفة أعمال القلوب الباطنة عند الناس فهو متعذر ولا يعلم البواطن إلا الله تعالى، إلا أن ما في الباطن منعكس على الظاهر، كما قال عليه الصلاة والسلام:
((ألا وإن في الجسد مضغة ؛ إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب))
فخطأ أن يقال في مثل هذه الحالة: (أشققت عن قلبه). وجوابه أن يقال: أنا لم أشق عن قلبه، بل هو الذي أفصح عمّا في باطنه فأظهره صريحاً في أقواله وأفعاله، وكما قيل: كلّ إناء ينضح بما فيه.
وكما حكمنا على إسلام الناس بالظاهر نحكم على كفرهم بالظاهر.
فأعمال القلوب تنتفي عند المرء إذا ثبت نقيضها، وإن قلّ؛ لأن الله تعالى يقول: ]ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه..).
فلا يمكن المتضادات فيه أن تجتمع، كأن يكون المرء مؤمناً وكافراً في نفس الوقت، أو موحداً ومشركاً في نفس الوقت، أو مخلصاً ومنافقاً في نفس الوقت. فهذه المتضادات لا تجتمع في القلب الواحد، كما لا يجتمع الحب والبغض، ولا التعظيم والاستهزاء، ولا الذل والكبر، لذا يقول e:
((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)).
لأن ذرة الكبر هذه نفت ما عنده من الذل والخضوع اللذين هما من أعمال القلوب التي إذا انتفت انتفى الإيمان بالكلية، فلا يكون المرء إذا مات على ذلك من أهل الجنة.
وعن أبي هريرة t أن النبي e قال:
((لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئ، ولا يجتمع الكذب والصدق جميعاً، ولا تجتمع الخيانة والأمانة جميعاً)).
من هنا نعلم أن ما ظهر على العبد من الاستهزاء والاستخفاف وإن كان يسيراً نفى كل ما عنده من التعظيم، أو بعبارة أخرى، دل على انتفاء التعظيم من قلبه، فلا يكون العبد معظماً للشيء ومستهزئاً به في آن واحد، وإذا انتفى تعظيم الله من القلب انتفى الإيمان بالكلية لأنه شرط له، وبهذا يكون المستهزئ كافراً. ولو كان المرء معظماً لله تعالى، مؤمناً به حقاً لمنعه إيمانه وتعظيمه من أن يستهزئ بآياته ورسوله ودينه.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى:
((و ذلك لأن الإيمان و النفاق أصله في القلب و إنما الذي يظهر من القول و الفعل فرع له دليل عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه فلما أخبر سبحانه أن الذين يلزمون النبي صلى الله عليه و سلم و الذين يؤذونه من المنافقين ثبت أن ذلك دليل على النفاق و فرع له و معلوم أنه إذا حصل فرع الشيء و دليله حصل أصله المدلول عليه فثبت أنه حيثما وجد ذلك كان صاحبه منافقا سواء كان منافقا قبل هذا القول أو حدث له النفاق بهذا القول)).
ثم قال رحمه الله بعد ذلك:
((و أيضا فإن هذا القول لا ريب أنه محرم فإما أن يكون خطيئة دون الكفر أو يكون كفرا و الأول باطل لأن الله سبحانه قد ذكر في القرآن أنواع العصاة من الزاني و القاذف و السارق و المطفف و الخائن و لم يجعل ذلك دليلا على نفاق معين و لا مطلق فلما جعل أصحاب هذه الأقوال من المنافقين علم أن ذلك لكونها كفرا لا لمجرد كونها معصية لأن تخصيص بعض المعاصي يجعلها دليلا على النفاق دون بعض لا يكون حتى يختص دليل النفاق بما يوجب ذلك و إلا كان ترجيحا بلا مرجح فثبت أنه لابد أن يختص هذه الأقوال بوصف يوجب كونها دليلا على النفاق و كل ما كان كذلك فهو كفر)).
ونحن لا يهمنا إسقاط الأحكام على الأعيان الذين تصدر منهم تلك الأقوال، وإنما يهمنا في بحثنا هذا هو إثبات أن المقالات التي يظهر فيها الاستخفاف بالدين على نوعين:
منها ما هو ظاهر لا يقبل التأويل ولا يحتمل أكثر من وجه ولا يمكن أن يقوله مسلم البتة، وإن قاله من انتسب إلى الإسلام، فقد كفر ظاهراً وباطناً، مثل الذين أنزل الله فيهم التوبة المتقدمة، فإن أقوالهم صريحة في الطعن بالرسول e وتكذيب خبره. وهذا مما لا يقوله مسلم، ولا يحتمل التأويل ألبتة، ولا يقبل عن قائله الاعتذار لقوله تعالى لأمثالهم: ]لا تعتذروا..[.
كما لا يتصور أن يقول شريف عن نفسه: ((زوجتي أو أمي زانية)).على سبيل الضحك والمزاح، إنه لا يمكن أن يقول هذه المقالة إلا ديوث عديم الغيرة، بقطع النظر عن القائل.
النوع الثاني بخلاف ذلكن وهو ما يحتمل أكثر من وجه، فإذا قاله المسلم المعروف بالتزامه فإننا نحمله على أخف الأوجه مع القول بتحريم القول تحريماً ظاهراً كالفسق ونحوه، حسب درجة ما قال، ومما يشير إلى ذلك ما بينه العلامة بن بيدكين في ما نقلناه عنه من تفريقه في الحكم بين القائل من غير اعتقاد فيحكم له بالفسق، وبين القائل مع الاعتقاد فيحكم له بالكفر.
ولا شك أن قول العلامة (من غير اعتقاد) يعتمد على المقالة من جهة وعلى القائل من جهة أخرى، فإذا كانت المقالة ظاهرة كما في الدرجة الأولى، لا ينظر إلى القائل، وإن كانت غير صريحة ينظر إلى القائل فإن كان ممن عرف بالتزامه ودينه حكم عليه بعد القول بالفسق، والله تعالى أعلى وأعلم.
ومن الجدير بالذكر أن الحكم بالتكفير لابد فيه من التفريق بين التكفير المطلق والتكفير المعين، وأن التكفير المعين لابد فيه من ثبوت الشروط وانتفاء الموانع كما فصل فيه ابن تيمية رحمه الله تعالى في مواضع عدة.