اضطررت صبيحة أحد الأيام للذهاب إلى قسم الشرطة القريب من الحي الذي أقطنه .. بعد أن عجزت في حل المُشكل الذي حصل بيني وبين أحد مسئولي التسويق لدى أحد المصانع المحلية بصفة وديّة .. وبينما أنا أشرح للضابط لُبَّ الخلاف الحاصل بيني وبين ذلك الرجل .. إذ برجل أُخاله شارف على الستين من عُمُره .. واضعاً يده المُمسكة بمنديل قُماشي على رأسه في محاولة يائسة منه لإيقاف نزيف الدم الذي تسرب إلى ثيابه في منظر يُدمي القلب ..
أقبل هذا الشيخ الكبير نحونا وهو يترنح يُسرة ويُمنة .. ترتسم على وجهه علامات الهول والصدمة .. ألقى السلام .. ودون أن ينتظر ردها .. باشر الشكوى .. غير آبه بوجودي قبله لدى الضابط ..
قال للضابط : إلحقني .. إلحقني ..
الضابط : خير إن شاء الله ؟!! ..
الشيخ : أي خير ؟! مصيبة .. مصيبة .. ألا ترى ما بي ؟؟!! ..
الضابط : بلى .. سلامات .. من فعل بك ذلك ؟؟ ..
الشيخ : ولدي .. نعم .. ولدي ..
الضابط : ولدك ؟!!! ..
الشيخ : إي والله ولدي .. أكبر عيالي .. والباقين كلهم بنات !!! .. خرج من البيت منذ الليل .. ولم يعد إلا قبل قليل .. وقد خفت عليه .. وخشيت أن يكون أصابه مكروه .. وراودتني أفكار لا نهاية لها .. وسهرت حتى أصبح الصبح .. وإذا به يدخل البيت .. وبمجرد أن دخل سألته عن سبب تأخره حتى هذا الوقت .. ومع من كان .. فما كان منه إلا أن ....... عندها لم يتمالك ذلك الشيخ نفسه .. وبكى بكاءً مراً .. وأخذ ينشج مثل الطفل من شدة البكاء .. لدرجة تأثر منها جميع الحضور وأنا منهم ..
قال الشيخ : هذا الولد هو الوحيد بين أخواته البنات .. فلم يرزقني الله من الذكور سواه .. وكنت أُعلِّق عليه الآمال والأحلام .. لكن للأسف خيَّب ظني فيه .. وبالرغم من كل ذلك .. لم أكن أتصوَّر ولو للحظة أن يأتي هذا اليوم الذي يشجُّ فيه ولدي الوحيد رأسي .. بدلاً من أن يكون "عُصابة" أشد بها رأسي .. وأن يكون عوناً لي بعد الله .. وسنداً أستند إليه ..... المهم - الكلام ما زال للشيخ - .. أريدكم أن ترافقوني إلى البيت .. حيث أنه لوحده مع البنات .. وأخشى أن يُصيبهم بأذى .. فهو يبدو أنه بحالة غير طبيعية ..
كان الشيخ يتكلم .. وأن أتأمل في قسمات وجهه المليء بالتجاعيد .. وفي رأسه الذي غلب عليه الشيب .. كنت أتمنى لو كان بإستطاعتي أن أفعل له أي شيء يُخفف عنه .. عرضتُ عليه أن أصطحبه إلى المشفى خشية أن يؤثر عليه نزيف الدم الذي أصابه .. نظر إليَّ بنظرة ملؤها الإمتنان لعرضي ذاك .. وشكرني بعفوية تنمُّ عن صفاء سريرة على الرغم مما هو فيه ..
سمعت كثيراً عن حالات ضرب الأبناء لآبائهم .. بل وحتى قتلهم لآبائهم .. وبطرق بشعة .. ولكن ذلك المنظر الذي رأيت فيه ذلك الشيخ الذي تبدو عليه علامات الوقار .. لا أظنه يُمحى من ذاكرتي ..أصابتني تلك الحادثة إصابة مباشرة .. وأثَّرت فيَّ تأثيراً بالغاً ..
خرجت من القسم بعد أن أمر الضابط بأن تُرافقني سيارة شرطة إلى ذلك المصنع لمحاولة إنهاء المُشكل .. وكانت لقطات ذلك المشهد تمر بإستمرار أمام ناظري .. وأسئلة كثيرة تتزاحم في رأسي ..
أهكذا يكون بِرُّ الوالدين ؟!! ..
هل هذا جزاء إحسانهم ؟؟!! ..
ألهذه الدرجة يصل العقوق عند بعض الأبناء ؟؟ ..
ماذا لو كان ذلك الأب قد توفي جراء تلك الضربة ؟؟!! ..
ألا يخشى ذلك الشاب الفتي عقاب رب الأرباب ؟؟ ..
وفي المقابل ..
هل كان ذلك التصرف الأرعن من ذلك الإبن العاق نتيجة دلال الأب له كونه الأبن الوحيد بين عدة أخوات ؟؟ ..
أخيراً ..
قال الله تعالى : (( (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولاتنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً) )) .. قال العلماء لو كان هناك أقل من "أف" لذكرها الله ..
أسأل الله أن يصلح أحوالنا .. وأن يُصلح أولادنا .. ويرزقنا برَّهم ..
تحياتي ،،،
[ram]http://www.anashed.net/audio/samtan/mob7er.ram[/ram]
الروابط المفضلة