السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يؤلمني كثيراً حال الشباب..تؤلمني حالة الضياع التي يعيش فيها معظم الخريجين..وحالة الإحباط والإحساس بالعجز..والتشتت وفقدان البوصلة..
والمشكلة تتفاوت من شخص لآخر..فهناك المتفوق المبدع الذي يمكنه من خلال هذه الميزات اختراق الكثير من الحواجز ويقتنص فرصته سريعاً..وهناك المجتهد مع قليل من التميز وضعف في الإمكانات يحاول ويحاول ولكن فرصته أقل من المتفوق..وهناك الكسول الذي قد يكون متفوق ولكنه أبداً لا يكون مجتهد وهذا للأسف حال الغالبية العظمى من الخريجين..ليس له هدف ولا غاية سوى "الوظيفة الحكومية" أو أي وظيفة ولكن المهم أنه لا يريد أن يزيد على شهادته الجامعية شيء فبها ونعمت! يظنها المفتاح السحري لفتح كل الأبواب المغلقة وينسى أو يتناسى أن هذا المفتاح له عدة نسخ في أيدي كل الخريجين..والسؤال أي مفتاح سيفتح؟ وأي باب سيُفتح؟
عزيزي الخريج مهلاً..
قبل أن تلوم الظروف أو الحكومة أو الواسطة أو أي سبب آخر قد يخطر ببالكم..اعلم أن كل هذه أسباب خارجية.. "شماعات" نعلّق عليها "عجزنا وخيبتنا" بدل الاعتراف بتقصيرنا..
كل ما ذكرت وغيره نشترك بمعايشته مع آلاف من الخريجين فلماذا فلان نجح وتميز والآخر لا؟
لن أكون الحكم ولا الجلاد بل سأكون ناصحة بإذن الله من واقع ملاحظاتي وتجربتي الشخصية..
وخلال هذه الكلمات سأخاطبك أنت.. أيها الخريج وأيتها الخريجة..ستكون أنت المحور وأنت المشكلة وأنت الحل..
تبدأ الحكاية بمجرد تخرج الطالب من الجامعة حينها يكون في قمة الحماسة والتفاؤل "المفرط" في أن الدنيا "ستضحك" له بمجرد أن يغادر أعتاب الجامعة وستفتح له ذراعيها لينعم من خيرها..وهنا تبدأ بوادر المشكلة بالظهور عندما تتحطم هذه الأحلام والأمنيات على أرض الواقع الصلب وبين طوابير المتقدمين للوظائف التي تطول ولا تقصر..
قابلت مرة إحدى الخريجات تندب حظها وتبكي لحالها لأنه مر على تخرجها 5 شهور ولم تجد وظيفة بعد! ومن باب بث التفاؤل أخبرتها أنني انتظرت 5 سنوات قبل أن أجد وظيفة!
لا نريد قول شعارات..نعلم بالطبع أن كل شاب وكل خريج من حقه أن يكون له مصدر دخل يعيش منه ويحيا حياة كريمة ويكوّن أسرة ويستقر لأن هذا هو قوام المجتمع السليم..
ولكن الواقع ليس هكذا ونحن نريد عيش الواقع ووضع حلول تنبع من ذواتنا..لا نريد أحداً يحل لنا مشكلتنا لأننا إن فعلنا سننتظر كثيراً وطويلاً جداً..
وإذا أردنا أن نكون منصفين فالحكاية بدأت قبل ذلك بقليل..عندما دخل الطالب بعد تخرجه من الثانوية تخصصاً ضد رغبته
أو حسب ما أعانه عليه معدله أو بناء على ما يتطلبه "البريستيج" العائلي..
ما علينا..تورطنا ووقعت الفاس في الراس..
نعود لصاحبنا الخريج بعد أن تكسّرت مجاديفه وهو ما زال على البر...وهنا ينقسم الخريجون إلى أنواع فمنهم من يعيش في بيات شتوي من أثر الصدمة ومحتاج عملية إنعاش حتى يفوق ويستيقظ.. ونوع آخر ما زال لديه جرعة من التفاؤل ولكنه تفاؤل مريض..فهو ما زال يؤمّل نفسه بأن الحظ سيأتيه "قريباً" في يوم من الأيام السعيدة المشرقة ليطرق بابه دوناً عن كل "الخلق" ويقدم له "الوظيفة" على طبق من فضة..
وهناك نوع ثالث وهم القلة تجدهم يكافحون بشتى الطرق حتى يستحقوا عن جدارة الفرصة التي ستسنح له وهو على يقين أنها ستأتي لتكافئه على جده واجتهاده..وهذا من يستحق أن أخصص له باقي هذه الكلمات..مع العلم أن هناك نوع رابع ليس موضوعنا هنا هؤلاء الذين تلقفهم الفرصة بمجرد التخرج إنهم "المتفوقون" (بدون حسد طبعا)..بيستاهلوا أن يحصدوا ثمار تعبهم..ولن أقول "المتميزون" لأن هناك متميزين مغمورين مجهولين حتى عن أنفسهم..
طيب بالنسبة للثلة المكافحة من أجل أن تثبت نفسها..فتجده لا يترك دورة إلا ويسجل بها..ولا يدع مكان إلا ويطرق بابه..يجرب كل الخيارات ويتنقل كل يوم من حال إلى حال..هذا "الغلبان" مشكلته الرئيسية هي: أنه لا يعرف ماذا يريد..فيضيع وقته بالتجريب ويملأ سيرته الذاتيه بكثير من الأعمال والمعلومات التي يظن أنها لو وزنت فإنه يستحق وزنها ذهباً من التقدير والمكافأة ولكنه للأسف ينصدم الصدمة الثانية عندما لا يجد من ذلك شيئاً..
فأين الخلل؟ وأين الحل؟
أولاً..التعلق بالأسباب لا برب الأسباب..تركن إلى شهادتك وإلى مهارتك وإلى علمك وتظن أنها ستفتح لك أبواب السعادة..وتنسى من وهبك علمك وعقلك ومهارتك..
قرأت مرة لفتة جميلة في قول الله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" فهذا الإعداد هو للتخويف فقط ..هو من الأخذ بالأسباب وليس هو سبب النصر وإنما النصر من عند الله..عندما تتخذ كل الأسباب فلا تجدها تنفعك وتنقطع عنك كل السبل فلن تجد منجى ولا ملجأ ولا معين إلا الله..
ثانياً..عدم وضوح الهدف..المشكلة لدى العديد من الشباب أن الوظيفة هي هدف بحد ذاتها رغم أنها ينبغي أن تكون وسيلة لتحقيق هدف أعلى وأسمى..وعند تحديد هذا الهدف قد تجد وسائل أخرى غير "الوظيفة الحكومية" لتحقيقه..
ثالثاً..التشتت بين الوسائل..فمرة تجده في دورة في الإدارة ومرة أخرى في التنمية وثالثة في علم النفس! وهذه نتيجة لما سبقها..على سبيل المثال: خريج الحاسوب لديه العديد من الخيارات ( قواعد البيانات - برمجة - شبكات - ملتميديا...الخ) ويظن أن الأفضل هو من يفهم في كل هذه المجالات فيضيع وقته متنقلا بينها وهو لم يتقن منها شيئاً..
والحل: اعرف ماذا تحب..حدد ماذا تريد..وركز جهدك فيه..
رابعاً..الاهتمام برأي الناس ونظرتهم لك لا برأيك بنفسك وبما ترغب..فيضيع عمرك في محاولة إرضاء الناس وإثبات نفسك لهم..وقالوا قديماً إرضاء الناس غاية لا تدرك..
وأخيرا..عزيزي الخريج أوصيك بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغتنم فراغك قبل شغلك"
طوّر مهاراتك..زد من خبرتك بالتدريب والتطوع..انخرط بالمجتمع واصنع علاقات اجتماعية..بشرط أن ينسجم كل هذا مع هدفك الذي حددته..
واعلم أن "الوظيفة" تحقق لك هدف واحد من عدة مجالات فانتهز فرصة فراغك لكي تعمل على المجالات الأخرى التي قد تكون أهملتها خلال انشغالك بالدراسة..
سواء على المستوى الإيماني أو الأسري أو الثقافي بل وهوايتك التي اندثرت بين كتب الجامعة أحيها من جديد فقد تعطيك هي الحياة..
لم أجد أجمل من كلمات الدكتور إبراهيم الفقي رحمه الله لأختم بها هذا المقال:
"تذكر أن تعيش كل لحظة وكأنها آخر لحظة في حياتك،
عش بحبك لله سبحانه وتعالى، عش بالتطبع بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم،
عش بالعلم والكفاح، عش بالأمل والالتزام عش بالمرونة والصبر،
عش بالعطاء، عش بالحب، وقدّر قيمة الحياة"..
أسأل الله أن ينفعني وإياكم بهذه الكلمات..وأن ينير قلوبنا وبصائرنا ويهدينا سبل الرشاد..
::
::
مجرد خربشات كتبتها بعد حواري مع خريجة تائهة حائرة..حالها كحال معظم الخريجين والخريجات..
فإن أحسنت فمن الله وإن أسأت فمن نفسي والشيطان..
والمجال مفتوح أمامكم للمشاركة بالنقد والإضافة والمناقشة..
::
::
أختكم/ غ. ف.
1/12/2013
الروابط المفضلة