من جميل ما يُحكى عن الشيخ المجاهد "عبدالله عزام" ـ رحمه الله ـ أنه كان يلقي محاضرة، فلما سمع الأذان سكت وأمر الحضور جميعاً بمتابعة الأذان والترديد معه، يقول راوي القصة: فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان وهو يردد مع الأذان، فعلمت أنّ الرجل يعيش بقلبه مع كل شعيرة من شعائر الإسلام..!
إنَّ هذا المشهد الحي المؤثر يلقي بظلاله على أمر مهم في حياة المسلم اليومية، ألا وهو "واجب الوقت".. فواجب الوقت في حياة المسلم هو الذي يكون مقتضى الوقت ووظيفته، فإذا أُّذِّن للصلاة، انخلع المسلم من مشاغله وردّد مع المؤذن، ثم استعد للصلاة وسعى إليها، حتى لو كان مشغولاً بعمل صالح، فإنه يؤدي واجب الوقت ثم يعود لمواصلة ما كان فيه من عمل.
إنّ تفاعل المسلم مع "واجب الوقت" هو أشبه ما يكون بأداة قياس الحرارة "الترمومتر"، إذ هو قياس لحرارة الإيمان وجذوته في قلبه، ويقظته وانتباهه لما هو أحب إلى ربه عزّ وجل.
ولقد لخص ابن القيم ـ رحمه الله ـ الأقوال المختلفة في تحديد أفضل الأعمال، وخلص إلى أن أفضل الأعمال في كل وقت وحال هو: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضا، باعتبار أنّ قاعدة "واجب الوقت" تنظيم كل الأعمال والعبادات، لكنها تمنح المسلم ميزاناً دقيقاً للأوْلى في كل وقت بحسبه.
وهنا أورد كلام ابن القيم بنصه؛ لنفاسته وروعة بيانه. يقول ـ رحمه الله:
... "الصنف الرابع": قالوا: إنّ أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرد، كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات السحَر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به.
والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع، وإن بعد كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو بالبدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمع القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.
والأفضل في العشر الأواخر من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنَّه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن، عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك .
والأفضل في وقت النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم؛ فإنّ المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم، أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.
والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهو أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلَّله فخلطتهم حينئذٍ أفضل من اعتزالهم.
فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.
انتهى كلامه ـ رحمه الله ـ.
وبعد هذا النقل النفيس، والبيان الجميل، تبقى دعوة، إلى كل ذي همة، لقياس حرارة الإيمان في القلب، وتتبع النفس في مسيرة الحياة اليومية منذ اليقظة في الصباح إلى النوم في الليل، وتعاهدها لئلا تشرد عن "واجب الوقت" فتقدم فاضلاً عما هو أفضل، أو تنشغل بواجب على التراخي عن "واجب الوقت"، فتخسر أكثر مما تربح!
الروابط المفضلة