لأول مرة.. بالأسماء والوقائع أسماء 'الخونة' الذين سلموا مفاتيح بغداد للأمريكان
تقرير يكتبه: مصطفي بكري
شر البلية ما يبكي.. بدل الدموع.. دما وشر الطعنات أن تأتيك من حيث لا تحتسب.. ولا تدري وأعظم الشرور أن تفضي 'الطعنات' إلي 'نكسات' وأن تتحول النكسات إلي كوارث ومآس.. هذا.. إن كان المستهدف شخصا.. أو مجموعة أشخاص.. فما بالك.. لو كان المستهدف وطنا.. والمطعون في الظهر غدرا.. بلدا بحجم العراق..
نعم.. إنها الحقيقة المرة.. والكارثة الأليمة.. والنكسة التي لا ترد.. فقد استبيحت أرض العراق.. وسقطت عاصمة الرشيد.. ليس لضعف. أو جبن.. ليس لخوف أو تراجع.. بل بسبب 'طعنات مسمومة' ارتكبها بعض الموثوق فيهم بخسة ونذالة.. باعوا شرف بلدهم.. واستبدلوه ببضع سنوات في 'وكر الأعداء' وبضعة ملايين من الدولارات.. أهدروا كرامة أمتهم.. وخانوا حاضرها في مقابل مستقبل غامض مجهول.. آثروا شراءه ومقايضته بدماء الشهداء.. وتاريخ الوطن.. وماضيه المجيد.
أخذوا معهم بفعلتهم الشنعاء 'أمة كاملة' سقط جزء من بنيانها تحت سنابك مغول القرن.. لاندري.. كيف قبل من شرب من مياه دجلة والفرات أن يسلم للأعداء مفاتيح الحياة المتدفقة في شرايينهما الممتدة فوق خارطة العراق.. ولا ندري.. كيف لمن اؤتمن علي حاضرة الخلافة العباسية أن يسلم ذقن 'أبي جعفر المنصور' ورأس 'هارون الرشيد' ومرقد 'الإمام علي' وعتبات 'النجف الأشرف المقدسة' ومقام 'الإمام الحسين والإمام العباس' إلي من لا يعرف ربا.:. ولا دينا.. ليمنحه سلطة العبث بالمقدسات.. وانتهاك المحرمات.. والمس بالثوابت.. والوقوف عند بوابة الأمة في شرقها.. متأهبا للقفز فوق ما تبقي من 'قلاع' فوق خارطة العرب.
نعم.. إنها الحقيقة المؤلمة.. فلقد تأكد ما كنا نخشاه.. ونتخوفه.. ونحاول تحاشيه.. ليس تكذيبا للواقع المر.. ولكن إبعادا لظنون كنا ندرك أنها وقعت منذ سقوط بغداد.. بلا طلقة رصاص.. ولكن ما لم نكن ندركه.. أو نتخيله أن يكون الجرح بهذا العمق.. وأن تكون الطعنة بهذا النفاذ.. وأن تكون الخيانة.. والغدر.. ممن اؤتمن علي الأمانة.. وتحمل عبء مسئوليتها..
وقائع مريرة تكشفت.. وصفحات مؤلمة تفتحت.. لم تكن مصادرها تقارير أو وقائع.. أو مجرد روايات.. بل كانت رؤية مصادر بالغة الأهمية.. وصلتنا شهادتها المحملة بالأسماء.. والوقائع بعد أن عايشت الأحداث عن قرب.. وتجرعت كئوس مرارتها.. وامتلكت بيدها كل الحقائق التي كانت حتي وقت قريب مجرد 'أوراق غامضة'.. و'وقائع متناثرة' و'خيوط باهتة' و'ظلال غير مؤكدة'.
حين تصفحنا ما وصلنا من معلومات.. وروايات راح شعور باللامعقول يجتاح أوصالنا.. ويقتحم مشاعرنا.. ليغرس في أفئدتنا مزيدا من 'العلقم' الذي احتل موقع 'الهواء' في حياتنا هذه الأيام..
بخيط أسود.. جاءت روايات وقائع ما جري بعد أن أحاطت بالصورة من كل زواياها.. فجاءت الرواية متماسكة.. تحمل في داخلها أطراف أدلتها.. وتقدم في محيطها جوهر صحتها.. كاشفة أسماء 'من طعنوا بغداد في القلب' بعضهم تناثرت أسماؤهم فوق خارطة الاعلام.. وآخرون ظلت أسماؤهم 'طي الكتمان' بعد أن تعرضت هي الأخري لحصار الاخفاء.. حتي أخرجناها من سرداب عميق.. سوف تتسع دائرته أكثر.. فأكثر.. كلما ابتعدنا قليلا عن موقع وزمان الحدث.
البداية.. كانت محاولات أدمنتها الأجهزة الأمريكية والبريطانية جيدا.. التركيز علي شراء 'القطط السمينة' القادرة علي التأثير والفعل.. والقريبة جدا من مركز اتخاذ القرار.. و'القطط السمينة' هنا.. هي الدائرة المحيطة بالرئيس العراقي صدام حسين.. ولكن.. كيف الوصول إليهم.. وما هي المسالك والدروب التي تقود إلي 'فك شفراتهم' و'حل طلاسمهم'.
الطريق كان للأسف سالكا، بل ومعبدا ولطالما كرره المسئولون الأمريكون والبريطانيون.. حين أعلنوا في العديد من مؤتمراتهم الصحفية أنهم علي اتصال بكبار القادة العسكريين.. ورغم تكرار ذلك.. لكن يبدو أن القيادة العراقية التي أسلمت 'مراكزها الحساسة' لبعض ذوي القربي.. ظنت أن اختراق دائرة 'العصب العائلي' هي أقوي من كل المحاولات.. مهما كانت.. وأن فتح ثغرة في الجدار المحيط بمركز القرار هو المستحيل بعينه..
هكذا أسلمت القيادة العراقية ظهرها.. لمن أغمدوا سيوفهم فيها بلا شفقة.. وغرسوا خناجرهم في ظهر الوطن فباعوه.. ودمروه.
لقد سلك القطار الأمريكي طريق عدد من ضباط الجيش ورجال المخابرات السابقين.. متجها صوب محطة بعض العملاء الذين يجيدون الهبوط عند مواقع مؤثرة.. وقد كان لهم ما أرادوا.. فسرعان ما استقل قطارهم ثلة من ضعاف النفوس.. من ضباط وموظفين.. وشخصيات كانت موضع ثقة الرئيس العراقي صدام حسين.. وأركان حكمه.. وعبر هؤلاء راحت بوابات 'القطار' تحمل كميات لا بأس بها من المعلومات بالغة الأهمية.. وفيما 'القطار' مستغرق في سيره،، كانت ضربة قاصمة تصيب الرئيس العراقي صدام حسين.. فلقد تمكنوا من اصطياد أحد أبرز رجالاته. وأكثر المفضلين لديه.. وابن خالته 'الفريق ماهر سفيان التكريتي' قائد قوات الحرس الجمهوري الخاص.
الكل في العراق كان يعرف تفاصيل العلاقة الحميمة التي تربط الرجلين 'صدام وماهر'.. فلقد احتل موقعا فريدا في قلب الرئيس العراقي.. وكان معنيا بالحفاظ علي أمنه الشخصي، حيث تحمٌîل تلك المسئولية بجدية وكفاءة ومثابرة علي مدي سنوات طويلة مضت.. وكان بحكم موقعه المقرب.. معنيا بنقل التعليمات التي يصدرها صدام إلي العديد من الجهات العسكرية والمخابراتية في البلاد.. وهي معلومات تقع كلها تحت بند 'سري جدا'.. أي أنها تشكل 'قلب وعقل القرار العسكري والسياسي في العراق'..
ولكن.. يبقي السؤال: كيف استطاع الأمريكان الوصول إلي الفريق ماهر سفيان التكريتي.. وكيف نجحوا في تجنيده؟
بحسب المصادر الهامة ذاتها.. فإن عملية التجنيد سارت في دروب متعددة.. واتخذت مسارات متنوعة.. غير أن أكثر القنوات تأثيرا.. تمثلت في اتصالات أجراها عدد من الضباط الهاربين لديهم معرفة وثيقة به، مستخدمين في أداء مهمتهم شخصية عراقية 'كقناة مرور' إليه.. وهي من الشخصيات المقربة جدا إليه. كان الوصول إلي مفاتيحه.. وفك شفرته يتحرك في اتجاهين متوازيين.. أولهما يقدم إغراءات لا قبل له بها.. تبدأ بعرض مبلغ 25 مليون دولار تودع في حساب خاص به بالولايات المتحدة.. وتمتد إلي الايحاء بأنه قد يكون رجل العراق القادم.
أما ثانيهما.. فقد اشتمل علي تحذيره من مغبة الرفض.. أو التردد.. مستخدمين في ذلك كافة وسائل التأثير النفسي والجسدي.. ومنها أن معركة بغداد خاسرة... وأن مستقبل صدام حسين محكوم عليه بالانتهاء.. وأن أمريكا التي تخوض معركتها الفاصلة لن تتردد أبدا في فصف بغداد بالقنابل النووية التكتيكية إذا ما استعصت المدينة علي السقوط في يدها.
وما بين الإغراءات والتحذيرات.. وحيرة الرجل.. جاءته التطمينات بأن 'خيانته' سوف تبقي طي الكتمان ولن يعلم بها أحد.. وأنه وعائلته سينقلون فورا إلي الولايات المتحدة مع أول دخول للقوات الأمريكية إلي داخل بغداد.. وقبل أن يكتشف أحد 'صفقة الخيانة'.
ومع اكتمال فصول الصفقة.. كانت ملامح الخيانة قد بدأت تخيم فوق بغداد.. فالفريق ماهر سفيان التكريتي.. وبحكم قربه من الرئيس العراقي كان علي اطلاع تام بمختلف خطط المواجهة العراقية.. بل وكان من القلائل الذين يعرفون كل شيء.. فقد كان مصدر ثقة الرئيس و'مستودع أسراره'..
ولأنه كذلك.. فقد كانت الإجابة علي السؤال اللغز هي أكثر ما يشغل بال الأمريكيين الذين وجدوا في ماهر التكريتي 'البيضة الذهبية' القادرة علي منحهم السر الكبير.. كان السؤال المحير الذي رددته كل الدوائر الأمريكية هو عن سر هذه الثقة التي تكلم بها صدام حسين قبيل الغزو بأسابيع حين هدد من وصفهم بمغول العصر بالانتحار علي أسوار بغداد.. ولماذا لم يقل 'علي أبواب العراق'.. وماذا يعني بأسوار بغداد؟.. وهل يمتلك الرئيس العراقي خطة حقيقية للمقاومة.. أم أنه يïعًدٌ مفاجآت مذهلة للقوات الأمريكية.
وبقدر القلق الذي أصاب الأمريكان جراء هذه التساؤلات.. وبقدر شغفهم لمعرفة ما الذي تخفيه من ورائها.. بقدر ما كانت الاجابات متوافرة بشكل مذهل عند الفريق 'الخائن'.
كعربون لحسن النية.. ولإثبات عمالته المبكرة.. قدم الفريق الخائن رأس بغداد علي طبق من ذهب للأمريكان.. فلقد أبلغهم مبكرا عبر 'الوسيط' الذي فتح معه 'قناة الخيانة' أن ما أعلنه الرئيس العراقي لم ينبع من فراغ.. وإنما مبني علي حقائق وخطط تم وضعها.. وإقرارها لإغراق الأمريكيين في بحيرة من 'الدماء' إذا ما وصلوا إلي أسوار بغداد ومحيطها.. فلقد اعتمدت تلك الخطط علي الدفاع عن بغداد بمسافة تبعد 25 كيلو مترا من مركز العاصمة.. حيث تمكن العراق من تشييد سبعة خطوط دفاعية في مناطق الحقول الزراعية المحيطة ببغداد.. وأن الفاصل بين كل خط دفاعي والآخر نحو ألفين وخمسمائة متر وهي عبارة عن براميل من النفط الخام، ومادة تي. إن. تي، ومتفجرات أخري وضعت بعمق خمسة مترات، وتحيط ببغداد من كافة الاتجاهات.. حيث تضمنت الخطة ربط كافة هذه الخطوط الدفاعية بكنترول مركزي.
كانت الخطة المعدة تقضي باستدراج القوات الأمريكية للوصول الي المنطقة المحيطة ببغداد وهو ما أعلن عنه وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف وكانت تقضي بانتظار تمركز القوات الغازية وآلياتها في تلك المنطقة.. ثم يجري تفجير الخطوط الدفاعية من خلال الكنترول المركزي.. الأمر الذي سيحول تلك المنطقة إلي 'جهنم'.. ويوقع اعدادا هائلة من القتلي في صفوف القوات الأمريكية قدرتها التقارير والتوقعات العراقية بنحو 25 ألفا علي الأقل، معتبرة أن من شأن ذلك أن يدفع واشنطن للتراجع عن عدوانها، والبحث عن صيغة تفاهمية جراء هذا العدد الضخم من القتلي.
الروابط المفضلة