بسم الله الرحمن الرحيم
في مثل هذه الايام تمر عليناذكرى قصف ملجأ العامريه عند الساعة الرابعة والنصف بعد منتصف الليل، ولدى بزوغ أول خيوط فجر يوم الثلاثاء بتاريخ 13 من شباط عام 1991م.. دوّى انفجاران شديدان داخل ملجأ حيّ العامرية في بغداد، ليسقط على إثره أربع مئةٍ وثمانية، من النساء والأطفال والطاعنين في السنّ، شهداء القصف المتعمَّد لسلاح الجو الأميركي، وضحايا القتل العَمْد الذي ارتكبه أقوى جيشٍ في العالَم، بحق العُزَّل الذين فرّوا من القصف العدوانيّ للجسور والبيوت الآمنة والطرق والسيارات العابرة.. ليأووا إلى ذلك الملجأ الحصين، كلهم استُشهِدوا غدراً: مئتان وإحدى وستون امرأة، واثنان وخمسون طفلاً رضيعاً أصغرهم عمره لا يتجاوز السبعة أيام، وخمسة وتسعون من الأطفال والطاعنين في السنّ، تتراوح أعمارهم ما بين ثلاث سنواتٍ (الطفل أحمد العمر) وثلاثٍ وتسعين سنة (العجوز ذو الفقار).. ولم يُعثَر منهم إلا على ثلاث مئةٍ وأربع عشرة جثةً غير واضحة المعالِم، فيما تحوّل الباقون (أي 94) إلى أشلاء ودماء!..
كان ملجأ العامرية قد صُمِّمَ ليحمي الأطفال والنساء من الخوف وأهوال الحروب، وليحجبَ أصوات الانفجارات خارج المبنى عن الأطفال كي لا يفزعوا، لكنّ وحوش أميركة جعلوا الملجأ، بتصميمه العازل، حائلاً أمام سماع استغاثات أولئك الأطفال داخله.. وأمام وصول صراخهم وبكائهم واستنجادهم إلى أصحاب الضمائر الحية.. فكانت المجزرة شاهداً حياً على أبشع أساليب القتل العَمْد التي مارسها جيش العدوان الهمجيّ الأميركيّ!..
نائماً قرير العين،المئات من أطفال بغداد ونسائها، المقصوفين في ملجأ العامرية.. يستغيثون ويستنجدون ويموتون، اختناقاً وقتلاً ونزفاً.. وكمداً وفزعاً واحتراقاً.. لتقضي أسرٌ نَحْبَهَا بكل أفرادها، ولتتمّ إبادة عائلاتٍ بأكملها.. ولتمتزج الدماء: الدم العراقيّ.. بالدم السوريّ.. بالدم الفلسطينيّ..بالدم العربي فمن كل هؤلاء، كان يلوذ الذين لجأوا إلى ملجأ العامرية به.. فقد كان الملجأ صورةً مصغَّرةً عن بغداد التي كانت تفتح ذراعيها لكل العرب، لهم ما لها، وعليهم ما عليها.. وهكذا، استشهدت (أم أيمن) السورية مع تسعةٍ من أبنائها وبناتها وأحفادها وحفيداتها.. جنباً إلى جنب، مع أهل (أديبة) الفلسطينية، ومع أفراد عائلة (أم غيداء) العراقية وغيرهم من العراقيين والعراقيات!..
تقول السيدة (أم غيداء): (لقد فقدتُ في ملجأ العامرية كل أبنائي وبناتي التسعة، كنتُ أظن أن نقلهم إلى الملجأ سيحميهم من القصف الأميركي الوحشي.. ومن وقتها لم أعد أتذكّر اسمي الحقيقيّ، فقد استُشهِد اسمي معهم.. ويلقبونني الآن بأم الشهيدة غيداء: طفلتي الكبرى التي لم تكن تتجاوز الثالثة عشرة).. وتتابع السيدة أم غيداء: (قالوا لي صباح يوم ارتكاب المجزرة: لا تذهبي لتفقّدهم، فلن تتعرّفي عليهم!.. فقلتُ لهم: بل سأذهب، فأنا أمّ.. أنا أمّهم، فإن لم أتمكّن من تمييز ملامحهم.. فسأحسّ بهم حتماً.. إنهم جزء مني ومن قلبي وكبدي.. سأحسّ بهم.. سأتعرّف عليهم بالتأكيد)!..
وتقول سيدة عراقية ثانية: (بحثتُ عن طفلتي فلم أجدها، ومن بعيد، وقعت عيني على وسادتها.. اتجهتُ نحو الوسادة المحترقة فلم أعثر عليها.. تَمَنَّيْتُ لو أعثر على أي شيءٍ يحمل رائحتها، كحذائها أو دفاترها أو أي قطعةٍ من ملابسها.. لقد اختفت.. لم أجدها.. ولم أعثر حتى على أي قطعةٍ من أشلائها)!..
وتقول سيدة عراقية ثالثة: (كنتُ أبحث عن طفلي كالمجنونة.. دون جدوى.. ولم يكن طفلي ضابطاً، ولا قائد دبابة، ولا عسكرياً مقاتلاً، كما لم يكن في موقعٍ عسكريٍ على جبهات القتال.. فقد كان في ملجأ.. كان في ملجأ العامرية)!..
ويقول السيد عبد الكريم عبد الله: (كنتُ أحد أفراد فِرَق الإنقاذ.. وفي اليوم الثالث لعمليات الإنقاذ، كنا نحاول رفع الأنقاض، وتنظيف الجدران التي كانت تلتصق عليها الأشلاء والدماء والعيون والآذان.. في ذلك اليوم عثرنا على جثة امرأة، وعلى جثة رضيعها الذي احترق وهو على صدرها يرضع من ثدييها)!..
الروابط المفضلة