رغم فقدانه لزوجته و ابنه الشاب في مقتبل العمر في أحداث مخيم جنين الأخيرة إلا أن الحاج عيسى وشاحي لا يزال يشعر بالألم الكبير والمصاب الجلل باستشهاد ولده منير الذي استشهد برصاصة صهيونية في القلب أثناء محاولته النظر من الشباك لتحين الفرصة لمرور الدبابة على العبوة الناسفة التي كان مسؤلاً عن تفجيرها في مخيم جنين شمال الضفة أثناء محاولة القوات الصهيونية اقتحامه.
واستشهاد زوجته بقذيفة أطلقتها أحدى الطائرات على منزلها أثناء تواجدها في المطبخ تعد الخبز، ورغم أن منير استشهد قبل استشهاد والدته بيومين إلا أن والدته استشهدت دون أن تعلم أن ابنها منير قد سبقها إلى الشهادة، في حين أن والده لم يعرف عن استشهاده إلا بعد يومين من استشهاد زوجته .
رأيته جالسا في بيته لاستقبال المعزين أو المهنئين باستشهاد زوجته وابنه. جلس عيسى متمعنا في صورة ابنه الذي لم يتجاوز الثامنة وقد ملأ الحزن تقاسيم وجهه الذي حملت طياته ملامح حزنه في فقيديه ، عندما بدأت التحدث إليه، بدا وكأنه في حالة من اللاشعور لا يدري ما يقول ولا ما يفعل رافضا الحديث ولكن بعد الحاح كبير مني ومن الحضور رضي الحديث معنا. تنهد تنهيدة طويلة قبل أن يبدأ الحديث عن زوجته (مريم الوشاحي - أم مروان) بدأ حديثة بالقول :
لم تكن تجلس في البيت! بل كان جل وقتها مسخرا لخدمة الشبان المجاهدين. دائمة الحركة تتنقل من هنا إلى هناك تنقل من البيت إلى الشبان أينما كانوا في أزقة المخيم حاملة روحها على يدها غير آبهه بكل القصف الذي انهمر على المخيم طوال تسعة أيام ، ويضيف الحاج أبو مروان :
كانت تستيقظ فجرا.. تصلي الفجر لتبدأ بإعداد الطعام اللازم للشبان كانت تعجن لهم العجين وتخبز الخبز وتقوم بعمل ما يتجاوز المائة رغيف من الخبز والزعتر فطورا للشباب بشكل شبه يومي.. وبعد ساعتين يكون كل شئ جاهز وتبدأ رحلتها الأصعب في إيصال كل ما صنعت للشبان، كانت تتنقل من زقاق إلى زقاق تتحين فترات الهدوء في القصف حتى وإن لم يحصل هدوء فهذا لا يعني لها الشيء الكثير ولكن ما يهمها هو أن تسد رمق المجاهدين من الجوع..
بعد عناء المواجهات الشرسة مع الجنود الصهاينة. ورغم الإلحاح الكبير من زوجها بعدم المخاطرة في التنقل في فترات القصف التي قلما توقفت من الطائرات التي واصلت زخات رصاصها من عيار 800 و1200 إلا أنها لم تكن تعبأ كثيرا بها .
وفي أحد المرات التي عادت فيها بعد إيصالها الطعام للمجاهدين يقول الحاج أبو مروان عيسى الوشاحي : أغلقت الباب خلفها بسرعة وهي في حالة من الخوف ولون وجهها ممتقعا بالصفار حيث قالت وهي تلهث: لقد أطلقوا النار علي، ولكن لطف الله نجاني والحمد لله .
وفي الصباح واصلت أم مروان مريم الوشاحي ما عزمت القيام به يوميا في خدمة الشباب وقامت بعجن الكمية التي تريد من العجين في الغرفة السفلى من منزلهم الذي يقع على المدخل الشرقي للمخيم تمهيدا لتجهيزها فطورا للشبان المجاهدين .
إلا أن الطائرات كانت تشاهدها على مدار الأيام السابقة وهي تنقل ما تنقل للمجاهدين وعزمت النية على اقتراف جريمتها ، وبعد أن قامت بنقل الفطور الذي أعدته للمجاهدين، كان العجين الذي جهزته ينتظر الخبيز ، وما إن عادت السيدة أم مروان الوشاحي إلى منزلها حتى دوى صوت كبير في المنزل كما يقول أبو مروان الذي تواجد مع ابنه الصغير الذي لا يتجاوز التسع سنوات في الطابق العلوي، حيث هرع بسرعة إلى اسفل المنزل حيث تتواجد أم مروان، كان الدخان والغبار شديداً ، فقد تعرض الطابق السفلي لقذف من طائرات الأباتشي التي حلقت باستمرار في سماء المخيم..
يقول أبو مروان : دخلت من وسط الدمار وقد سمعت أنين وصراخ، بحثت عن مصدره و إذا بزوجتي وقد ضرجتها الدماء ملقاة على إناء العجين وقد أصيبت بعدد كبير من الشظايا في أنحاء جسدها وخاصة في منطقة الصدر والوجه ، لم أدري ماذا أفعل في تلك اللحظة، قمت بالاتصال بسيارات الإسعاف وحددت لهم مكاننا بدقة وبعد لحظات كانت السيارة لا تبعد عنا أكثر من عشرين مترا إلا أن الطائرات الصهيونية بدأت تطلق زخات من رصاصها على الطريق في مقدمة السيارة مما اضطرها العودة إلى الوراء ، إلا أنى لم استسلم ، فلم تكن تمضي خمسة دقائق إلا و أعاود الاتصال من جديد و أنا أرى زوجتي تنزف أمامي، حاول رجال الإسعاف المخاطرة لثلاث مرات كادوا أن يفقدوا حياتهم فيها إلا أنهم فشلوا فيها جميعا..
كان المنظر مؤلم جداً أن ترى زوجتك وهي تموت أمامك و أنت لا تستطيع فعل شيء وبدأ طفلي الصغير يربت على وجه زوجتي وهي تحتضر وهو يقول قومي يا ماما .. قومي يا ماما..
ويضيف : يومين بليلتيهما بقيت أسمع أنينها و أنا لا أستطيع فعل شيء وهي ملقاة على إناء العجين ، حتى صعدت روحها إلى باريها .
الروابط المفضلة