د. عبدالله مرعي بن محفوظ

بعد الإعلان عن أكبر وأضخم ميزانية في تاريخ السعودية، قال الملك عبدالله بن عبدالعزيز «إن الميزانية الجديدة، وبالرغم من الانخفاض الحاد في أسعار البترول خلال إعدادها، ستكون بمشيئة الله تعالى تعزيزًا للبرامج التنموية التي تؤدي إلى نمو الاقتصاد الوطني وزيادة الثقة به وتوفير الفرص الوظيفية للمواطنين والمواطنات».
هذا القول يجب أن ينعكس علي (التوظيف) في القطاع الخاص في عام 2009م، فقد بات توفير وظائف حكومية للمواطنين عبئًا ثقيلاً على الموازنة العامة، وأصبح تكدس المواطنين في الوظائف حكومية يعمق البيروقراطية ويدمر كل خريج جامعي يتم تعيينه لأنه معرض للتجميد الوظيفي، وكذلك غرست في نفوس الشباب اللامبالاة والتقاعس وقتل الطموح، وأصبحنا فعليًا نفقد رأسمالنا البشري الذي توجهت مئات المليارات لتعليمه ليؤول مصيره في مكاتب حكومية لا توفر له مناخ العمل المنتج.
المشكلة في مسألة التوظيف الوطني، الكل يرغبون في الوظائف (الإدارية) مع أن هناك وظائف فنية ومهنية بملايين الفرص لدى القطاع الخاص، ولكن التحول والانقلاب عن الأعمال المهنية حصل للمواطن بعد عام الطفرة في عام 1975م، قبلها كان صيد الأسماك وبناء السفن والحمل والتفريغ على طول الساحل الغربي والشرقي من أبنائها، والزراعة في الأحساء وعسير والقصيم والطائف من أبنائها، وجميع الأعمال الحرفية والمهنية في أغلب مدن السعودية كانت تستقطب الكثير من المواطنين، فما هي العاصفة التي حدثت من منتصف السبعينات إلى اليوم واقتلعت المواطنين من مواقع عملهم؟
لا أعتقد أنها التنمية، لأن ضرورة الانفتاح في منتصف السبعينات من القرن الماضي أوجبت فتح السعودية على مصراعيها لليد العاملة الوافدة والخبرة الأجنبية، ولكن هذا لا يعني أننا شعب كسول، بل المعروف عنا ومنذُ أقدم العصور بأننا واجهنا البيئة القاسية، وأجدادنا وآباؤنا هؤلاء العظام لا يُعقل أن خلفوا وراءهم أجيالاً لا تشبههم في جَلَدِهم على العمل وتحملهم المشقة؟
ولكن يظل هناك حقائق وأرقام تحتاج إلى مراجعة وتدقيق في السعودة والتوظيف، حيث هناك 6 ملايين مواطن قادر على العمل (المصدر، وزارة العمل، إستراتيجية التوظيف الجزء الثاني ص 16 و18) منهم 1.6 مليون مواطن ومواطنة تقريبًا يعملون في الحكومة، الخاضعين لنظام الخدمة المدنية 761 ألف وعلى بند الأجور وهم 239 ألف مواطن، والعسكريون بكافة قطاعاتهم الأمنية 600 ألف مواطن، أما أصحاب العمل والعاملون في القطاع الخاص فيقدر عدد ملاك الشركات والمؤسسات المتوسطة والصغيرة وأصحاب المكاتب المهنية وتجار العقار وأصحاب الدكاكين والبقالات والورش المختلفة، مليون مواطن، ويعمل لديهم 800 ألف مواطن ومواطنة.
هنا نأتي إلى (فين الباقي) فبعد حساب عدد المواطنين في القطاع الحكومي وهم مليون وستمائة ألف + عدد المواطنين في القطاع الخاص وهم مليون وثمانمائة ألف تقريبًا + عدد المواطنين العاطلين عن العمل حسب تقدير وزارة العمل وكذلك وزارة التخطيط والاقتصاد وهم 461 ألف عاطل عن العمل، يصبح الإجمالي ثلاثة ملايين وثمانمائة وواحدًا وستين مواطنًا، فأين باقي المواطنين وهم (مليونان ومائة وتسعة وثلاثون ألف) مواطن، فهل هم عاطلون عن العمل أم أنهم متوزعون في القطاع الحكومي والقطاع الخاص ولكنهم غير مسجلين رسميًا في إحصائيات وزراة العمل والتخطيط؟
أعود وأقول إن كل مواطن عاقل متزن، يثمِّن حديث معالي الدكتور غازي القصيبي يوم الأحد الماضي مع مديري مكاتب العمل في السعودية، الذي أكد على دورهم بأن لا يُظلم عامل أو يسلب حقه أو الإساءة إليه، وذكرنا بالماضي وقال: كنا ننظر إلى العمالة الوافدة نظرة تكاد تقترب من التبجيل فهو إما طبيب أو أستاذ علم أو محاسب، ولم يأتونا كي ينهبونا أو يفسدوا مجتمعنا أو لكي ينشروا فيه الجريمة. واختتم قائلاً: للأسف الشديد استبد بنا شيء من الغرور بل ومن العنصرية، وبدأنا نتصور أننا أفضل من أولئك الذين أتونا لكي يشاركونا عبء التنمية، وقال إن الله سبحانه وتعالى سخر الناس بعضهم لبعض، فقد يسخر الآن أفرادًا من أمة تخدم أفراد أمة أخرى، وربما تنقلب الآية في المستقبل.
وهذا القول سليم ولا يختلف عليه أحد، وعلينا الآن النظر بواقعية ومعالجة العمالة (غير الماهرة) وهم الذين لا يقرأون ولا يكتبون وقليل منهم يحمل شهادة ابتدائية وعددهم حسب إحصائية وزارة العمل ثلاثة ملايين وثمانمائة ألف وافد، هؤلاء مؤثرون بشكل مباشر على الأمن الوطني، ونعلم أن أسباب كثرتهم هي (الوزارات الحكومية الخدمية) التي قررت أن تبتعد عن مشكلات السعودة وعن متاعب التوظيف في قطاعات مثل الصيانة والحراسات والنظافة والتشغيل والنقل والتحميل، ثم أوعزت للقطاع الخاص تأسيس شركات صيانة وتشغيل، ولعدم الرقابة والتشديد على السعودة في ذلك الوقت، تسبب هذا القرار في استقطاب 3 ملايين عامل أقرب إلى الأمية وتم التعاقد ما بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص لتشغيل كافة الوزارات والمطارات والدوائر الحكومية من هذه العمالة.
ختامًا هنا من نلوم؟ هل هي وزارة المالية التي قبلت التعاقد مع شركات صيانة وطنية تدفع (450) ريالاً للعامل الوافد وهي تعلم أن ذلك سوف يؤثر على نشاط الاقتصاد الخفي وهو نشاط لا يمكن حسابه ضمن الناتج الوطني، ويندرج تحت هذا الاسم العديد من نشاطات (غسيل الأموال)، أم نلوم المواطن الذي ساهم في تشغيل هذه العمالة بطريقة دفع مبالغ شهرية له (إتاوة) وساهم في زيادة نشاطات المغاسل ومحلات الحلاقة والسباكة والتكييف والورش والبقالات الصغيرة.

* نقلاً عن صحيفة "المدينة"، الأربعاء 31 ديسمبر 2008م.
رابط المقال: http://www.al-madina.com/node/88776