السمكة

الأديب الكبير الأستاذ :مصطفى صادق الرافعي

تحت هذا العنوان ، أدار الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي قصة حدثت للعالم الفقيه أحمد بن مسكين البغدادي ، قال :
قصتي أني امتحنت بالفقر في سنة تسع عشرة ومائتين، وانحسمت مادتي ، وقحطمنزلي قحطا شديدا ، جمع علي الحاجة والضر والمسكنة ، فلو انكمشت الصحراءالمجدبة ، فصغرت ثم صغرت حتى ترجع أذرعا في أذرع ، لكانت هي داري يومئذ فيمحلة باب البصرة من بغداد .
وجاء يوم صحراوي ، كأنما طلعت شمسه من بين الرمل ، لا من بين السحب،ومرت الشمس على داري في بغداد ، مرورها على هذه الورقة الجافة المعلقة فيالشجرة الخضراء ، فلم يكن عندنا شيء يسيغه حلق آدمي إذ لم يكن في الدارإلا ترابها وحجارتها وأجذاعها ، ولي امرأة ولي منها طفل صغير ، وقد طويناعلى جوع يخسف بالجزف خسفاكما تهبط الأرض ن فتمنيت حينئذ لو كنا جرذانافنقرض الخشب ! وكان جوع الصبي يزيد المرأة ألما في جوعها ، وكنت بهماكالجائع بثلاثة بطون خاوية !!
فقلت في نفسي : إذا لم نأكل الخشب والحجارة فلنأكل بثمنها . وجمعت نيتيعلى بيع الدار والتحول عنها ، وإن كان خروجي منها كالخروج من جلدي . لايسمى إلا سلخا وموتا ن وبت ليلتي وأنا كالمثخن حُمل من معركة ، فما يتقلبإلا على جراح تعمل فيه عمل السيوف والأسنة التي عملت فيها .
ثم خرجت بغلس لصلاة الصبح . والمسجد يكون في الأرض ، ولكن السماء تكونفيه ، فرأيتني عند نفسي كأني خرجت من الأرض ساعة . ولما قضيت الصلاة رفعالناس أكفهم يدعون الله تعالى ! وجرى لساني بهذا الدعاء :” اللهم بك أعوذأن يكون فقري في ديني ، أسالك النفع الذي يصلحني بطاعتك ، وأسالك بركةالرضى بقضائك، وأسالك القوة على الطاعة والرضا ، ياأرحم الرحمين !”.
ثم جلست أتأمل في شأني ، وأطلت الجلوس في المسجد ، كأني لم أعد من أهلالزمن ، فلا تجري علي أحكامه ، حتى إذا ارتفع الضحى ، وابيضت الشمس ، جاءتحقيقة الحياة ، فخرجت أتسبب لبيع الدار ، وانبعث وماأدري اين أذهب ؟! فماسرت غير بعيد حتى لقيني ( أبو نصر الصياد ) وكنت أعرفه قديما ، فقلت ياأبا نصر ! أنا على بيع داري ، فقد ساءت الحال ، وأحوجت الخصاصة فأقرضنيشيئا يمسكني على يومي هذا بالقوام من العيش ، حتى أبيع الدار وأوفيك .
فقال : يا سيدي ! خذ هذا المنديل إلى أهلك ، وأنا على إثرك لاحق بك إلىالمنزل . ثم ناولني منديلا فيه رقاقتان بينهما حلوى ، وقال : إنهما واللهبركة الشيخ .
قلت من الشيخ وما القصة ؟
قال : وقفت أمس على باب هذا المسجد ، وقد انصرف الناس من صلاة الجمعة نفمر بي أبو نصر بشر الحافي ، فقال : مالي أراك في هذا الوقت ؟ قلت : مافيالبيت دقيق ، ولا خبز ، ولا درهم ، ولا شيء يباع . فقال : الله المستعان . إحمل شبكتك وتعال إلى الخندق ، فحملتها وذهبت معه ، فلما انتهينا إلىالخندق قال لي : توضأ وصل ركعتين.
ففعلت : فقال : سم الله تعالى وألق الشبكة ، فسميت وألقيتها ، فوقعفيها شيء ثقيل ، فجعلت أجره فشقَّ علي ، فقلت له : ساعدني ! فإني أخاف أنتنقطع الشبكة ، فجاء وجرها معي ، فخرجت سمكة عظيمة لم أر مثلها سمنا وعظماوفراهة ، فقال : خذها وبعها ، واشتر بثمنها ما يصلح عيالك ، فاستقبلني رجلفاشتراها .
فابتعت لأهلي ما يحتاجون إليه ، فلما أكلت وأكلوا ذكرت الشيخ فقلت : أهدي له شيئا! فأخذت هاتين الرقاقتين ، وجعلت بينهما هذه الحلوى ، وأتيتإليه ، فطرقت الباب ، فقال : من ؟ قلت : أبو نصر ! قال : أفتح وضع ما معكفي الدهليز وادخل . فدخلت وحدثته بما صنعت ، فقال : الحمد لله على ذلك . فقلت : إني هيأت للبيت شيئا ، وقد أكلوا وأكلت ، ومعي رقاقتان فيهما حلوى .
قال : يا أبا نصر ! لو أطعمنا أنفسنا هذا ، ما خرجت السمكة ! إذهب كله أنت وعيالك .
قال أحمد بن مسكين : وأخذت الرقاقتين وأنا أقول في نفسي : لعن اللهالدنيا ! إن من هوانها على الله ، أن الإنسان يلبس وجهه كما يلبس نعله ! فلو أن إنسانا كانت له أسرة ملائكية ، ثم اعترض الخلق ينظر في وجوههم ،لرأى عليها وحولاً وأقذارا كالتي في نعالهم أو أقذر أو أقبح ، ولعله كانلا يرى أجمل الوجوه التي تستهيم الناس وتتصباها من الرجال والنساء ،إلاكالأحذية العتيقة ..
ولكني أحسست أن في هاتين الرقاقتين سر الشيخ ، ورأيتهما في يديكالوثيقتين بخير كثير ، فقلت : على بركة الله ! ومضيت إلى داري ، فلما كنتفي الطريق لقيتني امرأة معها صبي ، فنظرت إلى المنديل وقالت : يا سيدي ،هذا طفل يتيم جائع ، ولا صبر له على الجوع ، فأطعمه شيئا يرحمك الله ! ونظر إلي الطفل نظرة لا أنساها ، حسبت فيها خشوع ألف عابد يعبدون اللهتعالى منقطعين عن الدنيا ، بل ما أظن ألف عابد يستطيعون أن يروا الناسنظرة واحدة كالتي تكون في عين صبي يتيم جائع يسال الرحمة .
إن شدة الهم ، لتجعل وجوه الأطفال كوجوه القديسين في عين من يراها منالآباء والأمهات لعجز هؤلاء الصغار عن الشر الآدمي ، وانقطاعه إلا من اللهوالقلب الإنساني ، فيظهر وجه أحدهم وكأنه يصرخ بمعانيه يقول : يا رباه ؟يا رباه ! .
قال أحمد بن مسكين : وخيل إلي حينئذ ، أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرضنفسها علي من يشبع هذا الطفل وأمه ، والناس عُمْيٌ لا يبصرونها ، وكأنهميمرون بها في هذا الموطن ، مرور الحمير بقصر الملك! لو سئلت فضلت عليهالإسطبل الذي هي فيه ..
وذكرت امرأتي وابنها وهما جائعان منذ أمس، غير أني لم أجد لهما في قلبيمعنى الزوجة والولد ، بل معنى هذه المرأة المحتاجة وطفلها ، فأسقطتهما عنقلبي ، ودفعت ما في يدي للمرأة ، وقلت لها: خذي وأطعمي ابنك ، والله ماأملك بيضاء ولا صفراء، وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام ، ولولاهذه الخلة بي لتقدمت فيما يصلحك . فدمعت عيناها ، وأشرق وجه الصبي ، ولكنطمَّ على قلبي ما أنا فيه ، فلم أجد للدمعة معنى الدمعة ، ولا للبسمة معنىالبسمة . وقلت في نفسي : أما أنا فأطوي إن لم أصب طعاما ، فقد كان أبو بكرالصديق يطوي ستة ايام ، وكان ابن الخطاب يطوي ، وكان فلان وفلان ، ممنحفظنا أسماءهم وروينا أخبارهم ، ولكن كيف للمرأة وابنها بمثل عقدي ونيتي ؟وكيف لي بهما ؟
ومشيت وأنا منكسر منقبض ، وكأني نسيت كلمة الشيخ ( لو أطعمنا أنفسناهذا ، ما خرجت السمكة ) فذكرتها وصرفت خاطري إليها ، وشغلت نفسي بتدبرها ،وقلت لو أني أشبعت ثلاثة بجوع اثنين لحرمت خمس فضائل وهذه الدنيا محتاجةإلى الفضيلة ، وهذه الفضيلة محتاجة إلى مثل هذا العمل وهذا العمل يحتاجإلى أن يكون هكذا ، فما يستقيم الأمر إلا كما صنعت .
وكانت الشمس قد انبسطت في السماء ، وذلك وقت الضحى الأعلى ، فملت ناحية، وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار ومن يبتاعها ، فأنا كذلك إذ مر أبونصر الصياد وكأنه مستطار فرحا ، فقال : يا أبا محمد ، ما يجلسك ههنا وفيدارك الخير والغنى ؟ قلت : سبحان الله ! من أين خرجت السمكة يا أبا نصر ؟قال : إني لفي الطريق إلى منزلك ، ومعي ضرورة من القوت أخذتها لعيالك ،ودراهم استدنتها لك ، وإذا رجل يستدل الناس على أبيك أو أحد من أهله ،ومعه أثقال وأحمال ، فقلت لع : وأنا أدلك . ومشيت معه أسأله عن خبره وشأنهعند أبيك . فقال إنه تاجر من البصرة ، وقد كان أبوك أودعه مالا من ثلاثينسنة ، فأفلس وانكسر المال ، ثم ترك البصرة إلى خراسان ، فأصلح أمره علىالتجارة هناك ، وأيسر بعد المحنة واستظهر بعد الخذلان ، وأقبل جده بالثراءوالغنى ، فعاد إلى البصرة ، وأراد أن يتحلل ، فجاءك بالمال وعليه ما كانيربحه في هذه الثلاثين سنة ، وإلى ذلك طرائف وهدايا !
قال أحمد بن مسكين : وانقلبت إلى داري ، فإذا مال جم وحال جميلة ! فقلت : صدق الشيخ : ” لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة ! ” فلو أن هذاالرجل ، لم يلق في وجهه أبا نصر ، في هذه الطريق ، في هذا اليوم ، في هذهالساعة ، لما اهتدى إلي ، فقد كان أبي مغمورا لا يعرفه أحد وهو حي فكيف بهميتا من وراء عشرين سنة ؟ .
وآليت ليعلمن الله شكري هذه النعمة ، فلم تكن لي همة إلا البحث عنالمرأة المحتاجة وابنها ، فكفيتهما وأجريت عليهما رزقا ، ثم اتجرت فيالمال ، وجعلت أُربِّهِ بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولاينقص حتى تمولت وتأثلت .
وكأني قد أعجبتني نفسي ، وسرني أن قد ملأت سجلات الملائكة بحسناتي ،ورجوت أن أكون قد كتبت عند الله في الصالحين ، فنمت ليلة فرأيتني في يومالقيامة والخلق يموج بعضهم في بعض ، والهول هول الكون الأعظم على الإنسانالضعيف ، يسأل عن كل ما مسّه من هذا الكون . وسمعت الصائح يقول : يا معشربني آدم ّ سجدت البهائم شكرا لله أنه لم يجعلها من آدم ! ورأيت الناسيحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقة مجسمة ، حتى لكأن الفاسق على ظهره مدينةكلها مخزيات .
وقيل : وضعت الموازين ، وجيء بي لوزن أعمالي فجعلت سيئاتي في كفة ،وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى . فطاشت السجلات ورجحت السيئات ، كأنماوزنوا الجبل الصخري العظيم الضخم ، بلفافة من القطن..!
ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنعه ، فإذا تحت كل حسنةشهوة خفية من شهوات النفس : كالرياء والغرور ، وحب المحمدة عند الناسوغيرها ، فلم يسلم لي شيء ، وهلكت عني حجتي ، إذ الحجة ما يبينه الميزان ،والميزان لم يدل إلا على أني فارغ .
وسمعت الصوت ينادي : ألم يبق له شيء ؟ فقيل : بقي هذا .
وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي ؟ فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما علىالمرأة وابنها ! فأيقنت أني هالك ، فلقد كنت أحسن بمائة دينار ضربة واحدةفما أغنت عني ، ورأيتها في الميزان مع غيرها شيئا معلقا ، كالغمام حينيكون ساقطا بين السماء والأرض: لا هو في هذه ولا هو في تلك .
ووضعت الرقاقتان ، وسمعت القائل : لقد طار نصف ثوابهما في ميزان أبينصر الصياد ، فانخذلت انخذالا شديدا ، حتى لو كسرت نصفين لكان أخف عليوأهون ! بيد أني نظرت فرايت كفة الحسنات قد نزلت منولة ورجحت بعض الرجحان .
وسمعت الصوت : ألم يبق له شيء ؟ فقيل : بقي هذا ..
وانظر ما هذا الذي بقي ؟ فإذا جوع امرأتي وولدي في ذلك اليوم ، وإذا هوشيء يوضع في الميزان ، وإذا هو ينزل بكفة ، ويرتفع بالأخرى ، حتى اعتدلنابالسوية ، وثبت الميزان على ذلك ، فكنت بين الهلاك والنجاة.
ونظرت فإذا دموع تلك المرأة المسكينة ، حين بكت من أثر المعروف فينفسها ، ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي ، ووضعت غرغرة عينيها فيالميزان ، ففارت وطمت ، كأنها لجة ، من تحت اللجة بحر ، وإذا سمكة هائلةقد خرجت من اللجة ، وقع في نفسي أنها روح تلك الدموع ، فجعلَتْ تَعظُم ولاتزال تعظم ، والكفة ترجح ، حتى سمعت الصوت يقول قد نجا .
وصحت صيحة انتبهت لها ، فغذا أنا أقول : ” لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة ! ” .
للأمانة العلمية نقلتها من كتاب سلسلة حكايات حواء إصدارات دار ابن حزم