المقاطعة العربية للكيان الصهيوني.. طيف لم يفقد بريقه
دمشق – فايز سارة

كثيراً ما تعيد تطورات الأحداث في الصراع العربي – الصهيوني إلى الواجهة أشكالاً ارتبطت ببعض فصول ومراحل هذا الصراع؛ مما يعتقد البعض أنها أصبحت من الماضي، بينما هي ما زالت في الحاضر، وقد تكون في المستقبل، ولعل مما يسهل هذه العودة أن الشكل الرئيسي للصراع بمعناه العنيف والدموي ما زال يطل بين حين وآخر، فيقدم لنا فصلاً من الصراع الذي يعتقد الكثيرون أنه قد تحول صراعاً سلميًّا، بعد أن اتجه العرب والإسرائيليون إلى التسوية السياسية للصراع العربي – الإسرائيلي والقضية الفلسطينية منذ أواخر السبعينيات.

لقد تعددت أشكال الصراع العربي مع الصهيونية، وإذا كان الصراع المسلح هو الشكل الرئيسي للصراع، فقد تزامنت وتعايشت معه أشكال أخرى، وبعضها لم يكن أقل أهمية من الصراع المسلح، ولعل أبرز هذه الأشكال المقاطعة العربية للمشروع الصهيوني، والتي بدأت بوادرها الأولى مع النقلات الأولى والحاسمة لمشروع الاستيطان.

لقد قام مشروع الاستيطان اليهودي على نظام الفصل والاستيلاء، والأهم في محتوياته هو الاستيلاء على الأرض، وإقامة السوق العبرية، وتشغيل اليد العاملة اليهودية، وقد مهدت هذه الثلاثية اليهودية لحرب ذات مضمون اقتصادي، كانت المقاطعة العربية إحدى ردات الفعل عليها وأهم نتائجها.

لقد بدأت فكرة المقاطعة من قلب التطورات التي عاشتها فلسطين بداية العشرينيات في صراع الفلسطينيين مع اليهود، وإحدى التعبيرات المبكرة عن المقاطعة، كان ذلك في مؤتمر الجمعية الإسلامية المسيحية المنعقد في نابلس عام 1920، والذي دعا وجهاء فلسطين ومزارعيها إلى "مقاطعة اليهود مقاطعة تامة" وامتدت هذه المقاطعة، وتطورت لتشمل كثيرًا من جوانب العلاقات الاقتصادية والتجارية وتشغيل اليد العاملة، إضافة إلى الامتناع عن بيع الأراضي والعقارات.

واتخذت المقاطعة بعداً عربيًّا لأول مرة عندما أقسم مندوبون عرب من سوريا وشرق الأردن ولبنان وفلسطين في اجتماع لهم بالقدس (27/11/1929) على منع بيع الأراضي لليهود، ومقاطعة المصنوعات والمتاجر اليهودية.
لجان المقاطعة في عام 36

والتطور الأهم في موضوع المقاطعة حدث خلال ثورة فلسطين الكبرى (1936- 1939) والتي شهدت صراعًا مسلحًا ضد الانتداب البريطاني، حيث تشكلت لجان مقاطعة في سوريا والأردن ولبنان لمنع إرسال البضائع والسلع إلى فلسطين، ما لم تكن مقترنة بموافقة اللجان القومية التي كانت تقود حركة الإضراب والعصيان العام في فلسطين؛ خوفًا من تسلل البضائع والسلع العربية إلى أيدي اليهود في فلسطين.

وتبع ذلك عقد المؤتمر القومي العربي في "بلودان" بسوريا عام 1937 بحضور مندوبين من سوريا والعراق والأردن ولبنان والعربية السعودية ومصر وفلسطين، والذي وسع حدود المقاطعة لتأخذ بُعدها العربي خارج فلسطين، ولشمل –إضافة إلى مقاطعة يهود فلسطين- مقاطعة بضائع الدول الأجنبية التي تدعم مشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين.

المقاطعة الرسمية في عام 45

المقاطعة الرسمية في عام 45
ثم كان التحول الثاني في موضوع المقاطعة العربية بانتقاله من المستوى الشعبي إلى المستوى الرسمي، عندما تبنت الجامعة العربية المقاطعة، حيث قرر مجلس الجامعة في جلسته الثانية (2/12/1945) مقاطعة المنتجات والمصنوعات اليهودية في فلسطين، وشكّل لجنة دائمة للإشراف على التنفيذ، ثم تقرر تشكيل مكتب دائم لذلك، ولجان في جميع الدول العربية مهمتها العمل على متابعة سياسة المقاطعة للمنتجات اليهودية في فلسطين وتنفيذها.

لقد صاغت الجامعة العربية الإطار القانوني والتنظيمي لمقاطعة إسرائيل بقرار مجلس الجامعة العربية في دورته الثانية والعشرين (11/12/1954) حيث حُدّدت القواعد المنظمة للمقاطعة، والحظر المفروض على إسرائيل وأشكاله، وطبيعة السلع والأنشطة التي تخضع للمقاطعة ونوعيتها، وكذلك الوسائل المتبعة لفحص البضائع والأنشطة، وتحديد الخاضع منها للمقاطعة، والعقوبات الواجبة التطبيق لجهة المخالفات، وكذلك الحظر على أي شخص طبيعي أو اعتباري، يقوم بتوقيع عقود مباشرة أو بالواسطة مع هيئات أو أشخاص مقيمين في إسرائيل، أو منتمين إليها بالجنسية أو يعملون لصالحها.

إن المبدأ الرئيسي لنظام المقاطعة العربية، قام على منع جميع أشكال المعاملات الاقتصادية والتجارية والمالية، التي يمكن أن تتم مع إسرائيل مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، أو مع شركات تساهم فيها أو تديرها إسرائيل، وتشمل المقاطعة الشركات والمؤسسات الأجنبية التي تدعم الاقتصاد الإسرائيلي، والتي فيها نفوذ صهيوني.

الإطار التنظيمي للمقاطعة
ويشمل الإطار التنظيمي لمقاطعة إسرائيل، قيام مكتب رئيسي مقره دمشق، يديره مفوض عام، يعيّنه الأمين العام للجامعة العربية، ويرتبط به، مهمته تأمين الاتصال بالمكاتب المختصة بشئون المقاطعة في الدول العربية بهدف تنسيق أعمالها، واستمرار أنشطتها، وهو يرفع تقارير دورية، أو عارضة إلى الأمانة العامة عن سير المقاطعة؛ لعرضها على مجلس الجامعة، ويعاون المفوض العام مندوب عن كل دولة بصفة ضابط اتصال تعينه دولته، وللمكتب ضباط اتصال في أنحاء مختلفة من العالم.

ويقوم في كل دولة مكتب خاص بشئون المقاطعة، توفر الدولة المعنية كادراته البشرية وتجهيزاته الفنية للقيام بمهمته، ويكون المكتب على صلة وثيقة بالمفوض العام لمكتب المقاطعة، ويعمل تحت رعاية المفوض ووفقًا لتوجيهاته.

وينعقد مرتين كل عام وبصفة دورية مؤتمر ضباط اتصال المكاتب الإقليمية، كما يمكن عقد اجتماعات استثنائية أو طارئة بدعوة من المفوض.

لقد توسعت المقاطعة العربية منذ أن بدأت ببضع دول، كانت في عضوية الجامعة، فشملت كل الدول العربية، التي أصدرت تشريعات تنظم نشاط المقاطعة، ولعدد طويل من السنوات.

ولقد أفرزت المقاطعة تأثيرات مهمة على الاقتصاد الإسرائيلي، خاصة وأن بعض الدول الإسلامية ودول أخرى استجابت كليًّا، أو جزئيًّا لنظام المقاطعة العربية، مما ترك تأثيرات سلبية على الاقتصاد الإسرائيلي وعلاقاته، وجعل إسرائيل والدول التي تؤيدها وتدعمها، ولا سيما الولايات تطالب -كلما أتيح لها- وتعمل -كلما أتيح لها- بإلغاء المقاطعة ووقفها، ولعل ذلك اعتراف بما تركته المقاطعة من تأثيرات سلبية على الاقتصاد الإسرائيلي وعلاقاته، وبخاصة لجهة الحد من تسلل الاقتصاد الإسرائيلي إلى الاقتصاديات العربية، وقدرته على التدخل والتأثير فيها.

عدوان 67 والمقاطعة
غير أن نظام المقاطعة العربية لإسرائيل شهد تبدلات سلبية، بدأ أولها مع الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان السورية المحتلة عام 1967؛ حيث فرض الاحتلال حقائق جديدة، بينها دخول مناطق تزيد مساحتها ثلاث مرات عن مساحة فلسطين تحت سيطرة إسرائيل، وهي تضم نحو مليوني نسمة من السكان العرب الذين لهم صلات وروابط مع المحيط العربي، وبينها روابط تجارية، كان لا بد من أخذها بعين الاعتبار من أجل دعم صمود السكان في وجه الاحتلال؛ مما عرّض مبدأ المقاطعة في المناطق المحتلة للخرق، وقد سعت الدول العربية إلى الحد من تأثيرات ذلك على المحيط العربي، وحصر الخرق في المناطق المحتلة، وجعله في الحدود الدنيا ما أمكن، والأمر في هذا انطبق لاحقاً على الأراضي اللبنانية التي احتلتها إسرائيل في الجنوب عام 1978، ثم وسعتها شمالاً إثر الغزو الواسع وصولاً إلى بيروت عام 1982.

اتفاقيات السلام تضعف المقاطعة

وتعرضت المقاطعة العربية لإسرائيل إلى هزة أكبر مع نهاية السبعينيات، عندما توجهت كبرى الدول العربية نحو التسوية السياسية للصراع العربي – الإسرائيلي وللقضية الفلسطينية، فعقدت مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل في آذار / مارس 1979 بعد نحو عامين من المفاوضات، قام خلالها الرئيس السادات بزيارة القدس عام 1977، وعقد مع إسرائيل برعاية الولايات المتحدة اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، وقد وضعت هذه التطورات حدًّا للمقاطعة المصرية الرسمية لإسرائيل، دون أن يعني ذلك أن المقاطعة المصرية في مستواها الشعبي زالت أو اختفت.

الخطوة المصرية لم تكن في تأثيراتها المحلية، وإنما في إمداداتها الإقليمية، ولا سيما في المحيط العربي والأفريقي والإسلامي، حيث إن ذهاب مصر -أكبر الدول العربية والأفريقية- في التسوية مع إسرائيل، ورفع سلاح المقاطعة، إنما سمح للدول الأخرى للذهاب في الاتجاه نفسه، وهكذا أخذت بعض الدول، تتخفف من التزاماتها إزاء نظام مقاطعة إسرائيل.


وفي كل الحالات، اعتبرت بعض الدول العربية، أن التخفيف من المقاطعة، أو إلغاءها يبين إشارات حسن النوايا العربية، بينما اعتبرت دول أخرى أن المقاطعة صارت في إطار الماضي، ليس إلا.

وهكذا أخذت العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية تتبدل، وبعض هذه العلاقات كان في الجوانب المتصلة بالمقاطعة، ومنها العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية، وذهب الأمر في بعض الأحيان نحو استثمارات مشتركة، واتفاقات ثنائية، نُظّمت بين الأفراد والمؤسسات مباشرة، أو بواسطة مكاتب للعلاقات، أو ممثليات تجارية إسرائيلية، تنتشر في عدد من الدول العربية، إضافة إلى السفارات الإسرائيلية القائمة في عدة عواصم عربية.

لقد هزت هذه التطورات سياسة المقاطعة العربية لإسرائيل، وجعلتها تتراجع في المستوى الرسمي العربي، لكنها لم تستطع أبدًا وقف المقاطعة، حيث لا زالت دول عربية ماضية في سياسة المقاطعة، بل إن هذه السياسة هي السياسة الرسمية لجامعة الدول العربية، رغم كل ما يمكن أن يقال عن الجامعة ونشاط مكتب مقاطعة إسرائيل، ويكفي للدلالة على حضور المقاطعة العربية الرسمية القول: إن دولاً تطبق المقاطعة.

المقاطعة شعبية
المقاطعة شعبية
ولا شك أن الحديث في موضوع المقاطعة العربية لإسرائيل، يحتاج إلى الذهاب إلى أبعد من الموقف الرسمي العربي، ذلك أن المقاطعة من خلال العمل بها أو رفعها ليست قرارًا تصدره الحكومات فقط، بل هي أيضاً فهم وممارسة، يقوم بها الجمهور والذي غالبًا ما تتحكم بمواقفه وممارسته اعتبارات، قد تكون القرارات الحكومية آخرها.

لقد بدأت المقاطعة العربية للصهيونية ومشروعها الاستيطاني في فلسطين مشروعًا شعبيًّا، ومد تأثيره إلى الأبعد ليتخذ شكلاً رسميًّا من جانب الدول العربية، وليفرض حضوره في أغلب الدول الإسلامية وبعض الدول المناصرة للحق العربي بمستويات مختلفة.

ولإن أصابت نظام المقاطعة سلسلة من الهزات التي أدت إلى تراجعه في بعض المواقع والمستويات، فإن هذا التراجع ناتج عن التراجعات السياسية، والتي لا شك أن تبدلها سوف يدخل تبدلات في واقع المقاطعة العربية لإسرائيل.

وقد تكون استعادة واقع الضفة الغربية وقطاع غزة إبّان انتفاضة عام 1987 وصعود نظام المقاطعة لإسرائيل خلالها مثالاً لا يحتاج إلى شرح طويل، وقد تكون الوقائع الفلسطينية الراهنة في ظل "انتفاضة الأقصى"، وما يرافقها من تطورات عربية وإسلامية وعالمية مقدمة لحدوث تطورات مهمة في موضوع المقاطعة.
منقول بتصرف

http://www.lakii.com/vb/showthread.p...0&pagenumber=1
8888