ساعة مع العارفين
============================
الفضيل بن عياض التميمي
(الجزء الثاني)
============================

(عِفّة عالم)

وعن بشر بن الحارث قال: قال الفضيل بن عياض: لأن أطلب الدنيا بطبل ومزمار أحب إلي من أن أطلبها بالعبادة .


(كلام نقي من قلب تقي من سيد المسلمين)

وعن الفضل بن الربيع قال: حج أمير المؤمنين الرشيد فأتاني فخرجتُ مسرعا فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك فقال: ويحك قد حك في نفسي شيء فانظر لي رجلا أسأله، فقلت هاهنا سفيان بن عيينة فقال: أمض بنا إليه، فأتيناه فقرعت الباب فقال: من ذا ؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين فخرج مسرعا فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله، فحدثه ساعة ثم قال له: عليك دَين؟ قال: نعم فقال: أبا عباس إقض دينه، فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئا أنظر لي رجلا أسأله فقلت: له هاهنا عبد الرزاق بن همام قال: امض بنا إليه فأتيناه فقرعت الباب فقال: من هذا؟ قلت أجب أمير المؤمنين فخرج مسرعا فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك قال: خذ لما جئناك له، فحادثة ساعة ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم قال أبا عباس اقض دينه فلما خرجنا قال: ما أغنى صاحبك شيئا أنظر لي رجلا أسأله قلت: هاهنا الفضل بن عياض قال: امض بنا إليه، فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها فقال اقرع الباب فقرعت الباب فقال: من هذا ؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين فقال: مالي ولأمير المؤمنين فقلت: سبحان الله أما عليك طاعة أليس قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس للمؤمن أن يذل نفسه)؟ فنزل ففتح الباب ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ المصباح ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف هارون قبلي إليه فقال –الفضيل- يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدا من عذاب الله عز وجل فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي فقال له خذ لما جئناك له رحمك الله فقال:
إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة، فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله فصم عن الدنيا وليكن إفطارك من الموت، وقال له محمد بن كعب القرظي: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبا وأوسطهم عندك أخا وأصغرهم عندك ولدا فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك، وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله عز وجل فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك وأكره لهم ما تكره لنفسك ثم مت إذا شئت، وإني أقول لك: إني أخاف عليك أشد الخوف يوم تزل فيه الأقدام فهل معك رحمك الله من يشير عليك بمثل هذا ؟ فبكى هارون بكاء شديدا حتى غشي عليه فقلت: له أرفق بأمير المؤمنين فقال: يا بن أم الربيع تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا، ثم أفاق فقال له: زدني رحمك الله فقال:
يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكا إليه فكتب إليه عمر يا أخي: أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء، قال فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، لا أعود إلى ولاية أبدا حتى ألقى الله عز وجل . قال: فبكى هارون بكاء شديدا، ثم قال له: زدني رحمك الله فقال: يا أمير المؤمنين إن العباس عم المصطفى صلى الله عليه وسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أمرني على إمارة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل، فبكى هارون بكاء شديدا ؛ وقال له: زدني رحمك الله، فقال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة فإن إستطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك فإن النبي صلى الله عليه وسلم من قال من أصبح لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة،فبكى هارون وقال له: عليك دين ؟ قال: نعم دين لربي يحاسبني عليه ؛ فالويل لي إن سألني والويل لي إن ناقشني والويل لي إن لم ألهم حجتي، قال –هارون- إنما أعني دين العباد . قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، أمر ربي أن أوحده وأطيع أمره فقال عز وجل (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)
فقال له: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقوَّ بها على عبادتك . فقال: سبحان الله أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا !! سلمك الله ووفقك، ثم صمت فلم يكلمنا فخرجنا من عنده فلما صرنا على الباب قال هارون: أبا عباس إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين !! .
فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال فلو قبلت هذا المال فتفرجنا به، فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه .
فلما سمع هارون هذا الكلام قال: ندخل فعسى أن يقبل المال، فلما علم الفضيل خرج فجلس السطح على باب الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجيبه فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة فانصرف رحمك الله، فانصرفنا .
وقد أسند الفضيل عن جماعة من كبار التابعين منهم الأعمش ومنصور بن المعتمر وعطاء بن السائب وحصين بن عبد الرحمن ومسلم الأعور وأبان بن أبي عياش وروى عنه خلق كثير من العلماء .

وتوفي رضي الله عنه في سنة سبع وثمانين ومائة .