كتب أسامة يوسف و ناهد كمال
أوروبا.. تعني عند الكثيرين التمدن والتحضر والرقي ، فقد عرف البشر حقوق الإنسان عبر شعاراتها القديمة الحديثة التي مازالت تصرعليها في كل محفل و منتدى ، و أنشأت عددا من المؤسسات التي لا ترعى حقوق الإنسان فحسب ، بل تؤكد على حقوق الحيوان أيضا بل و تحاكم في أحيان كثيرة من يسيئ معاملة الكلاب و القطط .
غير أن أوروبا بدت و كأنها نسيت أن هناك أكثر من 700 ألف امرأة في العالم تُعرض للبيع سنويا في واحدة من أحط أنواع التجارة في تاريخ البشرية ، وهي تجارة الرقيق الأبيض ، ذلك "الشر القديم الذي زحف على أوروبا الحديثة". ذلك الأمر الذي وشم على جبينها وصمة عار لم تستطع أن تمحوها مبادئهم المناقضة لواقعهم المرير.. إنها حقا معادلة صعبة أن تلتقي المدنية والعبودية ، في مجتمع دافع عن حيواناته و امتهن أشرف مخلوقاته..
و لن نحيد عن الحقيقة إذا قلنا إن تجارة بيع الفتيات الأوروبيات أو ما يسمى بـ " تجارة الرقيق الأبيض" تحقق أرباحا سنوية تصل إلى 7 بلايين دولار سنويا حسبما ذكر "جيس سيج" المدير المشارك للجمعية الأمريكية لمناهضة العبودية في مدينة بوسطن الأمريكية.
وتعرَّضت مجلة "النيوزويك" الأمريكية إلى إحدى القصص الحقيقية من واقع المجتمع الأوروبي ، حيث استضافت بعض الفتيات الأوروبيات اللاتي وقعن في فخ الرقيق الأبيض ، فقد نشرت المجلة قصة اختطاف إحدى الفتيات في دولة "مولدوفيا" الواقعة في شرق أوروبا ، و الفتاة تدعى "أولجا وينست" و تنتمى لأسرة مفككة حيث اشتهر عن أمها إدمانها للخمور، و عن أخيها انحرافه أخلاقيا و سلوكيا ، الأمر الذي دفعها إلى التحرر في ظل غياب الرقابة الأسرية حيث كانت تقضي معظم الوقت خارج المنزل ، و في إحدى المرات عند عودتها من مدرستها جنحت أولجا إلى أحد المتنزهات لممارسة رياضة الهوكى مع أصدقائها، ولم تكن تدري أنها في طريقها لمصيرها الأسود حيث تم اختطافها وتهريبها على الفور إلى إيطاليا.
و تتحدث أولجا عن مأساتها مع عالم الرق الأبيض الذي عاشت تحت وطأته لأكثر من عام متواصل رغم أنها لم تجاوز التاسعة عشر من عمرها فبدأت تروي قصتها في مدينة "فيليستا" إحدى المدن الواقعة في غرب مقدونيا حيث تزدهر تجارة الرقيق، والتي تتعرض فيها الفتيات قهرا للتجارة بأجسادهن مقابل حفنة من الدولارات تُعطى لقوادهن.
وكانت أولجا في أول الأمر ترهب التحدث إلى الصحفيين تحت تهديدات مالكها بالقتل ، إلا أن تدهور حالتها النفسية و الصحية دفعها للكشف عن أظلم فترة في حياتها على حد وصفها ، و قد لخصت أولجا تلك المأساة وهي منهارة في كلمة واحدة وهي "عبودية" ثم طأطأت رأسها خجلا وانهمرت بكاءً ونحيبا.
وتقول أولجا إن قوادا صربياً يدعى "دراجون" اقتادها إلى مدينة "تيميسوارا" الرومانية على الحدود مع يوغسلافيا ، وقد اصطحب دراجون وعدد من أتباعه الرومانيين عشرة فتيات فى مركب بنهر الدانوب ثم نُقلت أولجا إلى الحدود المقدونية تحت نظر حرس الحدود ثم إلى مدينة فيليستا المقدونية.
و استطردت أولجا سرد مأساتها حيث كانت تجبرعلي ممارسة الرذيلة بشكل يومي و بأسلوب حيواني ، و أكدت أنها لم تكن وحدها التي يُفعل بها هذا التصرف البهيمي ، فهناك العشرات بل و المئات من اللاتي يخضعن لنفس الظروف يوميا ، و من تُمانع منهن لا تجد إلا وابلا من الضرب المبرح دون رحمة ولا هوادة.
و نظرا لألوان الضرب و التعذيب والاغتصاب و افتقارها لما يثبت هويتها أو معرفة طبيعة المكان المتواجدة فيه فقدت أولجا الرغبة فى تحدى هذا الوضع ، و رضخت لتلك الممارسات انتظارا لساعة الإفراج ، و أولجا هى الوحيدة التى بقيت لمدة طويلة بفيليستا حيث تم نقل الآخرين إلى ألبانيا واليونان بعد أن أصبحن سلعة أرخص من أن تشترى ، وتضيف أولجا أنه يتم تهريب هؤلاء الفتيات عبر الساحل الألبانى إلى إيطاليا و اليونان ، و مما يسهل هذه المأمورية حسبما ذكرت أولجا تلك الإجراءات المتساهلة على الحدود بين دول الاتحاد الأوروبى .
وتمارس أولجا البغاء بأمر من مالكها "ماكس" الذى يمتلك غيرها الكثير واللاتى يمارسن عملهن بمدينة فيليستا المقدونية التى تعد أكثر المدن شهرة فى هذه التجارة حيث تمثل أكثر المصادر ربحا فيها .
وتشتكى أولجا من المعاملة السيئة التى تلقاها من القواد حيث يفرضون عليها نوعا واحدا من الطعام ، فضلا عن المعاملة الأكثر سوءا من الزبائن الذين يلجأون غالبا إلى الضرب المبرح الذى يترك آثارا سيئة و عاهات مستديمة في أنحاء متفرقة من الجسد.
وتقول أولجا أيضا إن هؤلاء القواد يسخرون عددا من النساء للإيقاع بالفتيات في براثن هذه التجارة اللعينة حيث تقوم هؤلاء النسوة بإغراء الفتيات بفرص عمل أجنبية من خلال عقود مزورة في دول غرب أوروبا إلى أن تقع الفريسة في شرك العبودية الجسدية.
ويؤكد الكاتب ديفيد بيردن أن شبكة "إم إس إن بي سي" أجرت عشرات اللقاءات مع ضحايا تلك التجارة الرخيصة ، إلا أنهن أصررن على عدم الإفصاح عن هوياتهن ، و لاتقل مأساة إحداهن عن مأساة أولجا.
وعلى حد قول الكاتب لم تكن أولجا إلا حلقة واحدة في مسلسل طويل من تلك الصناعة الرائجة في أوروبا الشرقية بوجه عام ، و في بعض الدويلات التي نتجت عن انهيار الاتحاد السوفيتي السابق بشكل خاص ، و لم تكن مقدونيا إلا بوابة العبور لذلك الطريق الشائك و الموصل إلى دول أوروبا الغربية.
و يروي الكاتب قصة أخرى من قصص البغاء القهري ، وهذه المرة يتناول قصة أرملة من ملدوفا تدعى لويزا وتبلغ من العمر 32 عاما ، و بدأت قصتها عندما أقنعها أحد أصدقائها بالعمل في إيطاليا والزواج من ثري روماني ، و بعدها وجدت نفسها مملوكة لقواد من أصل ألباني يدعى بوجكو ديلافير الذي قام باغتصابها ، ثم اكتشفت بعد ذلك أنه مطلوب لدى السلطات الأوروبية بتهمة الإتجار بالفتيات ، و أنه مدرج علي رأس قائمة سوداء تمارس هذا النشاط منذ سنوات ، و كان قد اشترى لويزا مقابل 700 دولارا.
و قد تخلصت لويزا من أسر العبودية عقب حملة شنتها شرطة مدينة فيليستا المقدونية و وذلك بعد الحملة الصحفية التي قامت بها شبكة "إم إس إن بي سي" حيث واجهت وزير الداخلية المقدوني بتلك الحقائق و الأرقام الذي أمر قواته باقتحام الأوكار الجنسية المشبوهة.
ويقول أحد الأشخاص المضطلعين بعمليات بيع الفتيات و تهريبهن إن هؤلاء النساء يتم إجبارهن على ممارسة الدعارة من خلال عدة عصابات تنشئ وكالات لبيع الراقصات لعدة دول من بينها ألبانيا واليابان وإسرائيل واليونان وتركيا ، ويقول إن الفتيات يوقعن عقودا مع شخص يطلق على نفسه لقب مديرالفرقة الموسيقية والذى يملك ألبوما يحتوي على صورهن ويستغل هذا المدير تلك الألبومات لترويج صورهن لأعمال الدعارة وليس الرقص كما يتوقعن ، و بعد إتمام الصفقة يختفى هذا الشخص من حياة هؤلاء الفتيات ، و يكتشفن بعد ذلك أنه تم بيعهن بمبالغ مختلفة متوسطها 2500 مارك ألمانى تقريبا.
و يؤكد الكاتب أن عددا محدودا من أسر و عائلات المختطفات يحاولون البحث عن بناتهن ، غير أن الشرطة لا تفيدهم كثيرا حيث أن المشكلة تكمن في أن هناك تصريحا بخروجهن من البلاد موثقا من شرطة البلاد.
ويؤكد الوسيط أن عمليات التهريب تتكلف رشاوي باهظة يتم دفعها لبعض مسئولي شرطة الحدود تصل في بعض الأحوال إلى نصف مليون دولار لفتح البوابات الحدودية أمام المهربين لترويج تجارتهم في الخارج.
و يوضح الكاتب أن العاصمة الرومانية بوخارست تعد معقل تلك العمليات وهناك فروع أخرى فى مولدوفيا وأوكرانيا وروسيا.
و تشير بعض المصادر أن بعض عمليات بيع الفتيات يتم عن طريق الفيديو، و ليس على العميل إلا أن يتخير الفتاة التي تروق له عن طريق الضغط على الرقم الخاص بها.
و يقوم هؤلاء التجار بالتخلص من الفتيات الأقل "رواجا" ، حيث يتم إرسال هؤلاء الفتيات إلى مدينة أوراديا على الحدود الرومانية تمهيدا لترحليهن عبر الحدود المجرية إلى دول أخرى مثل تركيا.
و يبرز الكاتب أيضا أغرب الحيل التي لجأ إليها التجار، حيث قاموا باستغلال نجوم الكرة الذين ينتقلون من دول أوروبا الشرقية إلى غرب أوروبا حيث يعقدون معهم صفقات سرية باصطحاب بعض الفتيات مقابل مبالغ مالية كبيرة بخلاف رسوم استخراج جوازات السفر المزيفة لتسهيل مهمة مرورهم عبر الحدود.
و ينتقد الكاتب الأوضاع المتردية لهيئات تنفيذ القانون ببعض دول البلقان ، حيث يتهمها بأنها تقوم بنفس النشاط الذى كانت تقوم به عصابات الجرائم المنظمة بالمنطقة لسنوات طويلة ، حيث كانت تتعاون تلك العصابات فيما بينها عبر الحدود الفاصلة بين دويلات الاتحاد السوفييتي السابق.
و من أجل مكافحة تلك الجرائم تم إنشاء "المركز الإقليمى لمكافحة الجريمة عبر الحدود (إس إي سي آي)" من أجل القضاء على عمليات تهريب الفتيات والمخدرات والأسلحة عبرالحدود.
و تم إنشاء هذا المركز تحت مظلة مبادرة التعاون بين دول جنوب شرق أوروبا التي بدأت مؤخرا فى تنسيق الجهود الأمنية عبرحدودها ، وذلك فى شهر يناير الماضى ، و بدأ المركز أعماله بميزانية بلغت 2.4 مليون دولار بتمويل أغلبه روماني ومساعدات تكنولوجية تكلفت نصف مليون دولارمن الولايات المتحدة.
وقد أسس هذا المركزعدة دول هم ألبانيا وبلغاريا ويوغسلافيا وكرواتيا واليونان والمجر ومقدونيا ومولدوفيا وسلوفينيا ورومانيا وتركيا.
ويخصص المركز حاليا 29 ضابطا من مختلف الدول الأعضاء لحراسة الحدود من تجار الفتيات والمخدرات والبضائع المهربة.
ويقوم عدد من عملاء المباحث الأمريكية فى مجال مكافحة المخدرات والتهريب والهجرة غير الشرعية و تزوير الجنسية بمساعدة المركز في مهامه.
الروابط المفضلة