بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين .. الرحمن الرحيم .. مالك يوم الدين ..
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين .. سيدنا ونبينا وحبيبنا وشفيعنا محمد وآله وصحبه أجمعين .. ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين ..
أما بعد ..
فإني أتقدم في بداية ردي هذا بأكثر من إعتذار ..
أما الأول منها .. فلصراحتي التي ستتجلى في ردي هذا .. فلن أكون أكثر صراحة من اليوم .. ولعلمي ويقيني أن صراحتي ستُغضب مني البعض -سواء كثُر هذا البعض أم قلَّ- .. بيد أنه يجب أن يضع كل من يقرأ هذا الرد في حُسبانه أني والله أسعى وراء الحق ولا شيء غيره ..
وأما ثانيها .. فلما أتوقعه من طول لردي هذا وهو ما أراه يتطلبه الأمر لحساسية الأمر وأهميته ..
وأما ثالثها .. فلما قد يوجد من أخطاء طباعية أو لغوية .. ذاك أني قد إعتدت أن أكتب السواد الأعظم من موضوعاتي وردودي من خلال المكان المُخصص لكتابة الموضوعات والردود في المنتدى .. ثم بعد ذلك أُلقي نظرة أخيرة على ما كتبت لتصحيح ما قد يرد فيه من أخطاء .. ثم يأتي دور إدراجه .. ولست ممن يقضي ساعات طوال أو حتى أيام في تنقيح رده أو موضوعه .. وكنت أتمنى من كل قلبي لو كنت كذلك .. لأني أرى ذلك أجدى وأنفع لما يُكتب (وهذا السرُّ أُذيعه لأول مرة) ..
كما وأرى أنه يجدر بي أن أذكر هنا أني لست بطالب علم ولا حتى طويلب علم .. بيد أني في حُكم المطلع سواء أكان ذلك قراءةً أو سماعاً أو مشاهدة أو حضوراً .. لكيلا أُظلم فأُصنَّف على أني من أُناس هم أرفع مني مكانة وقدراً ..
وبعد كل ما تقدم مما رأيتُ أن إيضاحه من الأهمية بمكان .. يأتي دور ما جاء في رد أختنا الفاضلة مزون البحر ..
فأقول مستعيناً بالواحد الأحد الفرد الصمد :
إتخذت أختنا الفاضلة من موضوع سابق لأخينا الفاضل سمو المجد حول التصوير مدخلاً لموضوعها الذي نحن بصدده الآن .. وحيث كان الأمر كذلك .. وجب عليَّ أن أبدأ أنا الآخر من حيث بدأت هي (أخونا سمو المجد وموضوعه) ..
فأقول :
حقيقةً .. أني أعتبر الموضوع الذي طرحه أخونا سمو المجد والذي هو عبارة عن استفتاء حول التصوير .. هو موضوع في غير محله .. وكنت أتمنى منه لو أنه لم يطرحه بصيغته تلك .. ذاك أنه عندما يكون هناك حكم شرعي أو أكثر في مسألة ما -بمعنى أن المسألة خلافية- وفيها أقوال مُعتبرة .. فأن للمسلم أن يأخذ بما يرتاح له قلبه من القولين أو الأقوال وليس عليه أن يُلزم غيره به ولا أن يُلزم نفسه بما عليه الآخرون في حال كانت نفسه مُرتاحة للأدلة التي لا يأخذون بها .. أما أن تُطرح المسألة للتصويت وكأنها مشكلة فردية أو إجتماعية وليست مسألة شرعية .. فإني أرى أنه وقع في خطأ كنت أتمنى أن يتحاشاه .. خصوصاً وأنه ما حصل في موضوعه من تعدد الآراء ما هي إلا نتاج طبعي لإختلاف الفقهاء في تلك المسألة .. إذا فكان من الأجدى والأحرى والأنفع والأسهل والأيسر أن يرجع لأقوال العلماء المُعتبرين في تلك المسألة ويرى دليل كل فريق منهم .. ثم له بعد ذلك أن يُلزم نفسه بما إطمأنت له نفسه .. خصوصاً وأن غالب المتواجدين هنا -وأنا منهم- هم من عامة الناس .. ممن ليسوا مُجتهدين ولا حتى طلبة علم .. ما يعني أن طرحه للموضوع ليس ذا جدوى البتة ..
وأنا هنا أستغرب من قول أخينا سمو المجد عندما قال في رده على موضوع أختنا مزون البحر الذي نحن بصدده :
فعلا موضوع محير لعوام المسلمين البسطاء عندما يختلف المجتهدين السنيين
الثقاة في العلم الشرعي واللذين
توافرت بهم شروط الاجتهاد
وأقول :
طالما أنك تُقرُّ هنا أن الموضوع مُحير لعوام المسلمين البسطاء .. ألم يكن الأحرى بك عدم طرح موضوعك حول التصوير للتصويت .. منعاً للتشويش على أولئك العوام الذين تطرقت إليهم .. والذين يوجد منهم عدد لا بأس به هنا سواء أكانوا أعضاء أو زواراً للمنتدى أولاً ؟؟!! .. وثانياً .. لكون الموضوع يُعد مسألة شرعية وليست قضية إجتماعية أو مشكلة فردية يتم التصويت عليها ..
ثم ..
تعجبت عندما قرأت هذه العبارة في ردك أعلاه :
فالعادة عندنا أن نقول أهل العلم المجتهدين من أهل السنة والجماعة .. أما لفظة (السنيين) .. فحقيقة أنها أثارت عندي تعجباً لا ينقضي ..
ثم قال في رده :
في مايخص مستجدات العصر والتي تتطلب منهم استنباط حكم جديد في مسالة معينة
ويقذفون بعضهم البعض يجعل العامة في حيرة وشتات من امرهم
وأقول :
إتقِ الله .. ما علمنا هذا من عُلمائنا .. وليس من خلقهم أن يقذف بعضهم بعضاً لمجرد الإختلاف في الآراء الفقهية .. حيث أن علماءنا يعلمون تمام العلم أن هناك فقهاً للإختلاف بل إنهم يُعلِّمون طلبتهم ومُريديهم أحكام فقه الإختلاف .. فكيف يُمكن أن يقوم عالم يعلم الأحكام الشرعية وما اُختُلِفَ فيها من الأمور الفرعية ويعلم جيداً فقه الإختلاف .. أقول .. كيف يُمكن أن يقوم بقذف عالم آخر أو مجتهد لمجرد أنه إجتهد في مسألة فرعية ؟! .. خصوصاً وكلنا يعلم أن المُجتهد إما أن يُصيب أو يُخطئ .. فإن أصاب فله أجران .. وأن أخطأ فله أجر .. فمن باب أولى أن يكون علماؤنا أعلم بهذا الأمر ..
وللحق أقول .. أن هذه ليست المرة الأولى التي يتناقض فيها أخونا سمو المجد في أقواله وموضوعاته وردوده .. وإن أراد مني أن أُبيَّن له ما قد وقع فيه من تناقضات .. فما عليه إلا مُراسلتي عبر الخاص .. وأنا على أتم إستعداد لموافاته بما لديَّ حول هذا الخصوص ..
أما فيما يتعلق بباقي ما جاء في موضوع أختنا مزون البحر آنف الذكر ..
فأقول :
فإني أود أن أسأل أختنا سؤالاً :
ما الهدف المنشود الذي من أجله طرحتي هذا الموضوع في هذا المنتدى المبارك ؟! ..
فإن قلتي أنكِ حيرى في أمر إختلاف العلماء وتعدد آرائهم في المسائل الفرعية .. قلنا لكِ .. وهل هذا هو المكان المناسب ؟! .. أليس هناك سُبلاً وطرقاً أخرى يُمكن طرقها لمن هم أهل علم وتُقى وثقة يمكنهم إزالة تلك الحيرة أو التقليل منها على أقوال الأحوال ؟! ..
وإن قلتي أنكِ ما طرحتيه إلا من أجل إيجاد حلٍ لمشكلة تعدد الآراء الفقهية في بعض المسائل الفرعية .. قلنا لكِ .. هذا أمر مُحال إلا أن يشاء الله .. فالإختلاف هي سنة الله في خلقه .. ولو كان في ذلك إمكانية لكان ذلك منذ زمن طويل .. غير أنه ولكون ذلك الإختلاف في بعض الفروع كان مُبنياً على إجتهادات ومستنداً إلى أدلة يراها كل فريق صحيحة أو يُعتمد عليها .. كان لكل واحدٍ منه رأيه المُعتبر دون أن يُصادر رأي غيره .. وهذا يندرج كما سبق وقلنا ضمن فقه الإختلاف الذي يعلمه ويعمل به علماؤنا الأفاضل .. والذين يرى كثير منهم أن الإختلاف رحمة ..
ولو فرضنا على سبيل الجدل .. أنكِ ما طرحتي الموضوع إلا من أجل الوصول إلى حل لما ترينه مُشكلة حيرتكِ وأقضَّت مضجعكِ .. فإني أسألكِ هنا :
ما هي رؤيتكِ أنتِ التي ترينها حلاً لهذه المُشكلة ؟! ..
ثم ..
كرَّرتي عدة مرات عبارات :
وجدت بعض هيئة التدريس عندنا
وقيل لنا أننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر على جهل
وغيرها مما شابهها .. وأقول : سبحان الله .. وهل تُعد (وجدتُ ، قالوا لنا ، قيل لنا ، يُقال لنا) مصدراً من مصادر العلم .. وهل يُحكم بمثل ذلك على عالم إمام جليل ؟؟!! .. وهل كل ما يُقال يؤخذ به .. ألستِ أنت من تقولين وتعلمين أنه كل يؤخذ من قوله ويُرد إلا صاحب القبر -صلى الله عليه وسلم- وقد أوردتي ذلك في موضوعكِ ؟! .. أليس من الأولى تطبيق ذلك على من ينقل مثل تلك الإحكام على إمام جليل كأحمد بن حنبل ؟! .. أين أنتِ عن سؤال أهل العلم ؟! ..
وأعجب ما قرأته في موضوعكِ هو قولكِ :
فالامام أحمد بن حنبل رحمه الله يعمل بالحديث حتى لو كان ضعيفاً , لأن من وجهة نظره أن يكون الأمر في النهاية ( قال الرسول عليه السلام ) ولو كان بنسبة ( 10% ) خير من أن يكون ( قال أحمد ) ولو بنسبة ( 90% )
وأقول :
هذا والله تجنِ على ذلك الإمام الجليل .. ذاك أنه لا يقول بالحديث الضعيف .. بل كل ما في الأمر أنه يُنسب إلى الإمام أحمد رحمه الله قوله :
(إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد)
وهذه العبارة منسوبة إلى الإمام أحمد رحمه الله وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك .. غير أن البعض لا يعرف مدلول هذه العبارة .. فذهبوا إلى أنه يقول بالحديث الذي لا تقوم به حجة حتى ولو في فضائل الأعمال .. وهذا غير صحيح ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (ج18ص65): "قول أحمد: "إذا جاء الحلال والحرام شدّدنا في الأسانيد وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد"
وكذلك ما عليه العلماء بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به، فإن الاستحباب حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل شرعي، ومن أخبر عن الله أنه يحب عملاً من الأعمال من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم".
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (ج1ص31): "
ليس المراد بالضعيف عند أحمد الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم لا يسوغ الذهاب إليه والعمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسم من الصحيح وقسم من أقسام الحسن ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب"
وقال العجاج في التعليق على هذه العبارة: "
وفي بعض الضعيف عند أحمد الحسن في اصطلاح من جاء بعده"
وقال طاهر الجزائري في كتابه توجيه النظر إلى أصول الأثر، ص292: "قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتاب منهاج السنة النبوية –
إن قولنا إن لحديث الضعيف خير من الرأي ليس المراد به الضعيف المتروك لكن المراد به الحسن كحديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده وحديث إبراهيم الهجري ممن يحسن الترمذي حديثه أو يصححه وكان الحديث في اصطلاح من قبل الترمذي إما صحيح وإما ضعيف، والضعيف نوعان ضعيف متروك وضعيف ليس بمتروك، فتكلم أئمة الحديث بذلك الاصطلاح فجاء من لا يعرف اصطلاح الترمذي فسمع قول بعض أئمة الحديث الضعيف أحب إلي من القياس فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي"
وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على اختصار علوم لحديث لأبن كثير (ص92).
وأما ما قاله أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك ـ إذا روينا في الحلال والحرام شددنا وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا، فإنما يريدون به فيما أرجح والله أعلم أن التساهل إنما هو في الأخذ بالحديث الحسن الذي لم يصل إلى درجة الصحة فإن الاصطلاح في التفرقة بين الصحيح والحسن لم يكن في عصرهم متقرراً واضحاً بل كان أكثر المتقدمين لا يصف الحديث إلا بالصحة أو الضعف فقط".
أقول :
وغير ذلك مما لا يتسع المجال لطرحه .. ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق ..
وأذكر هنا عرضاً ما تفضلتي بقوله .. وأثار حيرتي :
تذكرت موقفاً حدث
معي بفصلي ,
كانت هناك لعبة تصدر صوتاً موسيقياً ,
فذهبت إحدى طالباتي الصغيرات وأغلقت صوته وقالت الموسيقى حرام ونحن هنا بفصل قرآن . ونظرت إلي معجبة بما فعلت تريد من معلمتها أن تثني عليها..ابتسمت لها ابتسامة صفراء , وقلت في قلبي قالوا لنا لا تعقدوا الناس فالموسيقى مسألة خلافية !!!
وما تفضلتي به هنا يوحي إلى كل من يقرؤه أنكِ مُعلَّمة .. بينما لو رجعنا إلى مُقدمة موضوعكِ لوجدنا أنكِ تقولين إنكِ طالبة في الجامعة :
أنا طالبة في قسم الشريعة الاسلامية في الجامعة
فإيهما أنتِ ؟! .. طالبة في الجامعة .. أم مُعلمة ولديكِ طالبات صغيرات ؟!! ..
أما ما جاء في باقي موضوعكِ من سرد لبعض أقوال أئمتنا رحمهم الله مما ترينه يزيد من حيرتكِ ويُشتت ذهنكِ ويجعل من الجمادات أصدق ما في الواقع !!! ..
فأقول كل ذلك يندرج ضمن فقه الإختلاف والذي هو سنة الله في خلقه ..
ولعلي هنا أن آتي بقُصاصة جلبتنا من أحد المواقع حول هذا الخصوص ويُفيد في هذا الأمر ..
غير أني أُحب وقبل أن أختم ردي هذا .. أن أُشير إلى من قال أن سيستغني عن سؤال أهل العلم بالرجوع إلى الكتب .. وأُذكره بقول أهل العلم فيمن ترك السؤال ولجأ إلى الكتاب وحده .. حيث قالوا قولاً معناه :
(من كان شيخه كتابه .. كان خطؤه أكثر من صوابه )
كما ويجب أن نعلم أن في تركنا لسؤال العلماء ردٌّ لأمر الله عز وجل حيث قال :
(فأسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)
وإليكِ هنا قُصاصة اجتزأتُها من أحد المواقع يتحدث عن الحكمة من الإختلاف .. عسى أن ينفع الله به :
الوعي بأن الاختلاف في فهم الأحكام الشرعية الفرعية ضرورة لا بد منها أوجبتها طبيعة الدين، وطبيعة اللغة، وطبيعة البشر، وطبيعة الكون والحياة. فأما طبيعة الدين فقد أراد الله تعالى، أن يكون في أحكامه: المنصوص عليها والمسكوت عنها، وأن يكون في المنصوص عليه المحكمات والمتشابهات، والقطعيات والظنيات، والصريح والمؤول، لتعمل العقول في الاجتهاد والاستنباط فيما يقبل الاجتهاد والاستنباط، وتسلِّم فيما لا يقبل ذلك، إيمانًا بالغيب، وتصديقًا بالحق، وبهذا يتحقق الابتلاء الذي بنى الله عليه خلق الإنسان: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2]، ولو شاء الله لجعل الدين كله وجهًا واحدًا وصيغة واحدة لا تحتمل خلافًا، ولا تحتاج إلى اجتهاد، من حاد عنها قيد شعرة فقد ضل، ولكنه لم يشأ ذلك، لتتفق طبيعة الدين مع طبيعة اللغة وطبيعة الناس، ويوسع الأمر على عباده.
وأما طبيعة اللغة فلا شك أن مصدر الدين الذي يُرجع إليه ويُستدل به هو القرآن الكريم والسنة النبوية. والقرآن نصوص قولية لفظية، وكذا معظم السنة. وهذه النصوص يجري عليها ما يجري على كل نص لغوي عند فهمه وتفسيره؛ ذلك أنها جاءت على وفق ما تقتضيه طبيعة اللغة في المفردات والتراكيب؛ ففيها اللفظ المشترك الذي يحتمل أكثر من معنى، وفيها ما يدل بالمنطوق وما يدل بالمفهوم، وفيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، وما دلالته قاطعة وما دلالته محتملة، وما دلالته راجحة وما دلالته مرجوحة.
وأما طبيعة البشر فقد خلقهم الله مختلفين، فكل إنسان له شخصيته المستقلة، وتفكيره المتميز، وطابعه المتفرد، يبدو ذلك في مظهره المادي كما في مخبره المعنوي؛ فكما ينفرد كل إنسان بصورة وجهة ونبرة صوته وبصمة بنانه، ينفرد كذلك بلون تفكيره وذوقه وميوله، ونظرته إلى الأشياء والأشخاص والمواقف والأعمال. ولذا فمن غير الممكن صب الناس كلهم في قالب واحد في كل شيء، وجعلهم نسخًا مكررة، ومَحْوُ كل اختلاف بينهم؛ فهذا مخالف لفطرة الله التي فطر الناس عليها.
وأما طبيعة الكون الذي نعيش فيه؛ فقد خلقه الله سبحانه مختلف الأنواع والصور والألوان؛ كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} [فاطر:27، 28]. ولكن هذا الاختلاف الذي نبه عليه القرآن إنما هو اختلاف تنوع وتلوُّن، لا اختلاف تضارب وتناقض، ولهذا تكررت في القرآن عبارة: {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} في أكثر من مناسبة، بل نجد القرآن الكريم ينفي بعبارة صريحة ما ينبئ عن التضارب أو التعارض في الكون، وذلك في قوله تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ من تفاوت} [الملك:3]. وكذلك طبيعة الحياة؛ فهي أيضًا تختلف وتتغير بحسب مؤثرات متعددة، منها الزمان والمكان.
والاختلاف مع كونه ضرورة هو كذلك رحمة بالأمة وتوسعة عليها، وقد دل على ذلك بعض الأحاديث النبوية، حيث صاغ الشارع الحكيم كثيرًا من الأحكام صياغة مرنة بحيث تتسع لتعدد الأفهام وتنوع الآراء والاجتهادات، وسكت عن النص على بعض الأحكام ليتيح للعقول المسلمة الاجتهاد في فهمها في ضوء المنصوص على حكمه. ولذا اجتهد الصحابة – رضي الله عنهم – واختلفوا في أمور جزئية كثيرة، ولم يضيقوا ذرعًا بذلك، وأتاحوا لنا باختلافهم هذا فرصة الاختيار من أقوالهم واجتهاداتهم.
والله تعالى أعلم وأحكم .. وأستعفر الله العظيم وأتوب إليه ..
تحياتي ،،،
الروابط المفضلة