إنهم رجالٌ ونساء كثيرون أولئك الذي لا يكتفون بلحافهم، وكلما رأوا لحافًا جديدًا بادروا للالتحاف به، بالرغم من أنهم لا حق لهم فيه.
ذلك هو واقع مجتمعنا البائس الذي يسعى لاقتناء كل جديد، ويسعى لتقليد كل من حوله في لباسه، ومركبه، ومسكنه، مهما كلفه ذلك، سواء كان بالقرض، أم بالطرق المحرمة من سرقة ورشوة وغيرها، بل قد يريقون ماء وجوههم، ويسألون غيرهم الصدقة، لنيل هذا اللحاف، المهم لديهم ألا يكون أحد أحسن منهم.
هؤلاء البؤساء هم من يوجه إليهم المثل الشعبي "مد رجليك على قدر لحافك".
كثيرون من الناس لا يستطيعون أن يقتنعوا بأن هناك من هو أقدر منهم، فتجدهم يسعون بكل وسيلة -مهما كانت شرعيتها- إلى اقتناء مثل السيارة التي لدى جيرانهم، والأثاث الذي عند أقاربهم، والملابس والكماليات التي على أصدقائهم، وإن لم يتمكنوا من ذلك فإنهم لا يجرؤون على مواجهة الناس، لإحساسهم بالنقص، وما علموا أن نقص المرء إنما يكون في دينه وأخلاقه، وليس في أمواله ومقتنياته.
والأسوأ من ذلك؛ أن بعض هؤلاء لا يحتاجون هذه المقتنيات، بل أسوأ منه أنها لا تكون مناسبة لهم، وقد لا تكون مريحةً لهم، ولا تعجبهم، المهم ألا يكون أحدٌ أحسن منهم وحسب.
المشكلة عميقة الجذور، وتحتاج لعلاج نفسي اجتماعي؛ لاجتثاث هذا المرض من عقول هؤلاء البؤساء، فالآثار الناجمة عن هذه المشكلة ليست مرتبطة بهم وحدهم، بل هي تمتد للمجتمع أجمع، فهؤلاء البؤساء سينقلون العدوى إلى غيرهم، وسيربّون أبناءهم وأهليهم على هذا التفكير السقيم، وأخطر من هذا أنهم يسيؤون لاقتصاد البلد، وذلك بتضييع الأموال في غير فائدة، وبتضخيم الديون الخاصة، وزيادة الهوة بين الأغنياء والفقراء، فهذا الذي يظهر بأحسن المظاهر، ليس غنيًا كما يوحي شكله، بل هو أفقر من رجل مرقّع الثوب لا يجد ما يسد به رمقه، وذلك لما يتحمّله من ديون ستبقيه فقيرًا هو وأبناءه وأبناء أبنائه، وهو بهذا الفعل كالطبيب الذي يعالج السرطانَ بمراهمَ تحسّن الشكلَ الخارجي، ويترك المرضَ يستشري بداخل المريض ويتفاقم.
أوضح مثال على هذه الفئة البائسة، الشباب العاطلون الذين لا يقبلون بالوظائف المتاحة، زعمًا منهم أن أجر هذه الوظائف غير كافٍ لحاجتهم، وعندما تسألهم لماذا لا يكفيك راتب قدره ألفا ريال، تسمع إجابة تزيد غمك وحزنك على الحالة التي وصل إليها تفكير هؤلاء، سيجيبك قائلاً: "هذا الراتب لا يكفي لفاتورة الجوال، ولا لبنزين السيارة..." ويعدّد لك الأشياء التي بإمكانه الاستغناء عنها! من عَلّم هذا الشاب ورَبّاه على أن الجوال والسيارة أمران ضروريان لا غنى لأحد عنهما؟ أكثر من يحملون الجوالات؛ ليس بهم حاجة فعلية إليها، وبإمكان الشاب أن يستغني عن السيارة، وكذلك كثير من الكماليات التي يغرق الناس فيها أنفسهم، ويظنون أنهم لا يعيشون بدونها، لماذا؟ لأن الآخرين لديهم هذه الأشياء، وهم ليسوا أحسن منا!
يجب أن يعلم الشباب أن المال الذي يحتاجونه فعلاً؛ هو ما يصرفونه على أمور معيشتهم الضرورية، من مأكل، ومسكن، وملبس، ونحو ذلك من مقومات الحياة. أما الكماليات، والزيادة عن قدر الحاجة في المأكل والمسكن والملبس؛ فهي متاحة لمن يملك المال فقط، ومن لا يجد المال؛ فعليه أن يحصّله بحقه، لا أن يتطفل على موائد الآخرين، وهناك نماذج كثيرة لأناس يعيشون حياة كريمة بألف ريال شهريًا، لكنهم يعرفون أين يضعون أموالهم.
يجب أن يعلموا أيضًا أن قيمة كل امرئٍ ما يحسن، وأن راتب الشاب هو الذي يحدده بنفسه، وذلك بعلمه، وقدرته، وخبرته، أما أن يكون الشاب بلا شهادة، ولا مهارة، ولا خبرة في أي شيء، ويطالب براتب عالٍ مثل أصحاب المؤهلات والخبرات، فلن يجد من يوظفه، ولا من يتعاطف معه. عليه أن يتقن عملاً، حتى يكون أهلاً للوظيفة.
متى يقتنع هؤلاء البؤساء بأن الأيام دول، وأن الغنى لا يدوم، وأنهم وإن كانوا أغنياء يومًا هم وآباؤهم؛ فإنهم قد يصبحون فقراء، أو متوسطي الحال، أما سمعوا قول أبي العتاهية:
ألم تر أن الفقر يرجى له الغنى *** وأن الغنى يخشى عليه من الفقر
بإمكان المرء أن يعيش حياةً كريمة، بمقدار قليل من المال، وذلك بحسن إدارة أمواله، وعدم الاهتمام بما لدى الآخرين، ليس ضروريًا أن تكون سيارته من النوع الغالي، ولا أن يسكن في حيّ راقٍ، ولا أن يُتْحِف بيته بأفخر الأثاث، ولا أن يأكل من جميع أنواع الأكل وأفضلها، بإمكانه أن يعيش حياة كريمة معقولة، بقدر معقول، وتصرفات معقولة.
الإحصائيات تقول إن الديون الخاصة ضخمة، وإن معظم المقترضين غير قادرين على السداد، والسجون مليئة بسجناء الحق الخاص العاجزين عن السداد، ومع ذلك، لا تزال البنوك تُقرض غير المستحقين!
لست أحرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وإنما أدعو للتعقل، والقناعة بما قسم الله لنا، ومن أراد التوسع في المباحات، أو تحسين أحواله المادية؛ فليجتهد في الكسب المشروع؛ حتى يرزقه الله مالاً يتوسع منه ويحسِّن حاله، أما أن يكون المرء كسولاً مفرطًا، ويطمح لأن يكون كغيره من الذين رزقهم الله ووسع عليهم؛ فهذا من العدوان. ومع أن الاقتراض في أصله مباح، إلا أن بعض الفقهاء كرهه، لمن ليس به حاجة إليه.
نجد في المقابل صورًا مشرقة، لرجال أغنياء وسّع الله عليهم في المال، ومع ذلك لا يبطرون في النعمة، ولا يظهر عليهم من هذا المال إلاّ قدر حاجتهم، دون تقليد لغيرهم، أو تتبع لكل جديد من المقتنيات. هؤلاء العقلاء علموا أن قدر المرء في عقله، ودينه، وخلقه، ومع ذلك فهم لو توسعوا فيما آتاهم الله من فضله، فلا حرج عليهم، ما داموا يؤدون ما فرض الله عليهم من الزكاة.
لست هنا أتحدث عن السبب الأساسي لهذا المرض، فذاك موضوع قد يطول الحديث عنه، وإنما غرضي هنا بيان حقيقة هذا المرض، وأن هذا التصرف خطأ مهما كان السبب المؤدي إليه، وأن الإنسان العاقل لا يمكن أن يقوم بهذه الأفعال مهما كان السبب.
كما إن علاج هذه الظاهرة يحتاج لبرامج طويلة المدى، لا يمكن تناولها في هذه المقالة، إلا أن هناك واجبًا على المجتمع، وعلى المؤسسات الحكومية والخاصة، بأن لا يعينوا هؤلاء البؤساء على تصرفاتهم، فالقروض يجب ألاّ تعطى إلاّ لمستحقيها الفعليين، وأن يكون هناك حاجة حقيقية للقرض، ولا يكون لمجرد الترف الكاذب، كما تصوِّره إعلانات المصارف.
كلنا يجب أن نحارب هذا التصرف، حتى لا يأتي يوم نتحول فيه جميعًا إلى فقراء ، وذلك لأنا أضعنا أموالنا، وسفهنا أحلامنا، حتى سيطر علينا أصحاب المليارات، أصحاب العقول.
الرياض 27 شعبان 1426
الروابط المفضلة