لتشيخوف يدين إبداع القصة القصيرة، فهو وحده القادر بأسلوبه العجيب النادر على أن يسمعك آهة خافتة عميقة يشق الصدر نصلها من خلال قصة فكاهية قصيرة.
فمن منا يستطيع نسيان أقصر قصصه التي تحكي عن رجل وجد في مطلع حياته عشرة بنسات ملقاة على قارعة الطريق فتوقف عن العمل وبدأ يدور في الطرقات بحثاً عن ثروة يلتقطها من دون جهد. وحين بلغ الستين من عمره أحصى ثروته فوجدها عبارة عن أربعين زراً وسبعة دبابيس، وعشرة ملاقط غسيل. وظهر محني من كثرة التحديق في الدروب بحثاً عن الأشياء الساقطة من جيوب الآخرين.
هذه القصة تذكرنا دائماً بالباحثين عن الثراء بلا جهد. أولئك الذين قرأوا كتاباً واحداً طيلة حياتهم، واكتفوا به، هو كتاب الأميركي (كارينجي) المعنون بـ (دع القلق وابدأ الحياة) ذلك الكتاب المضحك لا يقرأه مدمنوه لأنه يزرع الأمل في النفوس، ويطمئن القلوب الوجلة، بل لأنه يقدم لقرائه وصفة سحرية تعلمهم كيف يصبحون أغنياء في خمسة أيام من دون معلم، على طريقة قصص المرحوم مصطفى أمين عن الساعي الذي هاجر واشتغل في غسل الصحون، ثم عاد ليصبح رئيساً لمجلس الإدارة.
المال هو مفتاح الدخول إلى جنة السعادة، ورئاسة مجلس الإدارة هي الحلم الكبير، والوسيلة المثلى للتحكم برقاب الناس، كما تعتقد هذه الفئة من الكتاب، من خريجي مدرسة البحث عن الثراء السريع على الطريقة الأميركية.
ان صورة المثابرة والجهد، والبدء من أول السلم، والعامل المكافح، أو الموظف الأمين، أو الطالب المجد المثابر لا وجود لها في قاموس الذين يتركون القلق، ويقفزون على السلالم سعياً وراء الفرص التي لا يصل إليها أو يقتنصها إلا نهازو الفرص ومدمنو القفز على السلالم، اولئك الذين سادت مفاهيمهم لدرجة تجعلك تأسف على الوقت الذي أضعته في ترديد قول أمير الشعراء:
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
هذه الدعوات المبكرة إلى الهجرة، والوصول بأية وسيلة إلى المناصب العليا، والثراء السريع دمرت جيلاً كاملاً وربما أجيالاً من الشباب العربي، الذي استعجل الوصول إلى المناصب بالدسائس والانقلابات، ودخل عالم الثراء من بوابة الرشوة والتهريب، والهجرة العشوائية.
الذين هاجروا حققوا الجزء الأول من الحلم الذي تحدث عنه مصطفى أمين وهو غسل الصحون، وبقي الجزء الأصعب وهو العودة لبناء مؤسسة يحصل فيها غاسل الأطباق على منصب رئيس مجلس الإدارة.
نجيب محفوظ كان أكثر تواضعاً، حين رسم صورة قاسية لسعادة البيه المدير في رواية (حضرة المحترم) التي يصل بطلها (عثمان بيومي) إلى منصب رئيس مجلس الإدارة، بعد أن يضحي بكل شي بما في ذلك شبابه وعمره وصحته، فيحتل الكرسي لعدة أيام ثم تنتهي حياته، ويذهب إلى القبر.
هل نحلم بدعوات جديدة تبطل هذه المفاهيم، وتلغيها وتدعو إلى مفاهيم حقيقية تزرع الأمل والتصميم والمثابرة في نفوس شبابنا الذين أضعناهم في متاهات التخبط والقلق وانعدام المثل العليا؟



------------------
الحمد لله رب العالمين