عن إبراهيم الخواص الصوفي –رحمه الله تعالى – قال :-
ركبت البحر مع جماعة من الصالحين فكسر بنا المركب فنجا منا قوم على لوح من خشب المركب فوقفنا على ساحل لا ندري في أي مكان هو فأقمنا فيه أياما لا نجد ما نقتاته فأحسسنا بالموت وأيقنا بتلفنا من الجوع لا محالة فقال بعضنا لبعض : تعالوا نجعل لله تعالى على أنفسنا أن ندع له شيئا فلعله أن يرحمنا فيخلصنا من هذه الشدة . فقال بعضنا :أصوم الدهر كله ، وقال آخر أصلي كل يوم كذا وكذا ركعة . وقال بعضنا : أدع لذات الدنيا ،إلى أن قال كل واحد منهم شيئا ، وأنا ساكت . فقالوا قل أنت الآخر شيئا ..فلم يجر على لساني إلا أن قلت : أنا لا آكل لحم فيل أبدا . فقالوا : مامثل هذا القول في هذا الحال ؟
فقلت : والله لم أتعمد هذا ، ولكنني منذ بدأتم وعاهدتم الله تعالى عليه وأنا أعرض على نفسي أشياء كثيرة بتركها فلا تطاوعني بتركها ولا خطر ببالي شيء أدعه لله تعالى ولا مر على قلبي غير الذي لفظت به هذا وما أجري على لساني إلا لأمر. فلما كان بعد ساعة قال أحدنا : لم لا نطوف هذه الأرض متفرقين فنطلب قوتا فمن وجد شيئا أنذر به الباقين ،والموعد هذه الشجرة .
قال: فتفرقنا في الطواف، فوقع بضعنا على ولد فيل صغير، فلوح بعضنا لبعض فاجتمعنا، فأخذه أصحابنا، واحتالوا فيه حتى شووه و قعدوا يأكلون فقالوا لي: تقدم وكل معنا. فقلت: أنتم تعلمون أني منذ ساعة تركته لله-عز و جل- وما كنت لأرجع فيه، ولعل ذلك قد جرى على لساني من ذكري له، هو سبب موتي بينكم، لأني ما أكلت شيئاً منذ أيام، ولا أطمع في شيئ آخر، ولا يراني الله-عز و جل- أنقض عهده، ولو مت جوعاً فاعتزلتهم و أكل أصحابي.
و اقبل الليل، فآويت إلى أصل شجرة كنت أبيت عندها، و تفرق أصحابي للنوم.
فلم يكن إلا لحظة، و إذا بفيل عظيم قد أقبل وهو ينعر، والصحراء تتدكدك بنميره وشدة سعيه، وهو يطلبنا.
فقال بعضنا لبعض: قد حضر الأجل، فتشهدوا، فأخذنا في الإستغفار والتسبيح، وطرح القوم نفوسهم على وجوههم. فجعل الفيل يقصد واحدا واحدا منهم، فيتشمّمه من أول جسده إلى آخره، فإذا لم يبق منه موضعا إلا شمه، شال إحدى قوائمه فوضعه عليه ففسخه.فإذا علم أنه قد تلف، قصد إلى آخر ففعل به مثل فعله بالأول.إلى أن لم يبق غيري، و أنا جالس منتصب أشاهد ما جرى و أستغفر الله- عز وجل- و أسبّح.
فقصدني الفيل، فحين قرب مني رميت بنفسي على ظهري ففعل بي من الشم كما فعل بأصحابي، ثم عاد فشمّني دفعتين أو ثلاثاً، ولم يكن فعل ذلك بأحد منهم غيري، و روحي في خلال ذلك تكاد تخرج فزعاً. ثم لف خرطومه عليّ وشالني في الهواء، فظننته يريد قتلي، فجهرت بالإستغفار. ثم لفني بخرطومه فجعلني فوق ظهره، فانتصبت جالساً، واجتهدت في حفظ نفسي بموضعي.
و انطلق الفيل، يهرول تارة، ويسعى تارة، و أنا تارة أحمد الله تعالى على تأخير الأجل و أطمع في الحياة، وتارة أتوقع أن يثور بي فيقتلني، فأعاود الإستغفار، و أنا أقاسي في خلال ذلك من الألم و الجزع لشدة سرعة الفيل أمرا عظيماً.
فلم أزل على ذلك، إلى أن طلع الفجر و انتشر ضوءه، فإذا به قد لف خرطومه عليّ.
فقلت دنا الأجل و حضر الموت، و أكثرت من الإستغفار.
فإذا به قد أنزلني عن ظهره برفق، وتركني على الأرض، ورجع إلى الطريق التي جاء منها، و أنا لا أصدق!!
فلما غاب عني، حتى لا أسمع حساً، خررت لله ساجداً، فما رفعت رأسي حتى أحسست بالشمس.
فإذا أنا على محجّة عظيمة، فمشيت نحو فرسخين، فانتهيت إلى بلد كبير، فدخلته.
فعجب أهله مني، وسألوني عن قصتي، فأخبرتهم بها، فزعموا ان الفيل قد سار بي في تلك الليلة مسيرة أيام، و استطرفوا سلامتي.
فأقمت عندهم حتى صلحت من تلك الشدة التي قاسيتها، وتندى بدني، ثم سرت عنهم مع التجار، فركبت في مركب، و رزقني الله السلامة إلى أن عدت من بلدي.
الروابط المفضلة