أرسلت نظري في ظلام غرفتي و تنهدت من جديد..
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين...
استغاث بها سيدنا يونس عليه السلام، فأنجاه ربه من الكرب العظيم (و كذلك ننج المؤمنين).. المؤمنون أصحاب الكروب في كل زمان و مكان.. أغمضت عيني و رددتها بتفكر، علها تكشف ما بصدري من ضيق..
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين...
الساعة شارفت على الثالثة فجرا.. جسدي منهك.. فكري مشتت... ولكن عيناي تأبيان إطباق الجفون عليهما..
اللهم لا إله إلا أنت.. برحمتك أستغيث.. يا كاشف الهم و الغم.. طمئن قلبي بذكرك..
ضيق شديد.. قلب منقبض.. روح مستوحشة.. شوق جارح.. حزن عميق.. صمت مطبق.. وحدة قاتمة..
و العبرات قد جفت...
جاءني صوت والدتي عبر أسلاك الهاتف غضيضا باهتا، فلمست فيه حزنا..
' ماما ، هل كل شيء على ما يرام ؟ '
' أتذكرين سارة ؟ '
عادت بي إلى أيام المدرسة، فلمحت سارة من بعيد.. تلك الطفلة ذات الإبتسامة العذبة و الضفيرة الشقراء.. كنا ننتظر (باص المدرسة) سويا.. أشرق وجهي بابتسامة لأول مرة في ذلك اليوم،
' سرسورة ؟! '
ولكن أمي لم تقابل مرحي بالمثل..
' إنها في السابعة عشر من عمرها الآن... كانت... قتلت منذ أيام... عملية قتل و اغتصاب...'
شعرت أن الدنيا تدور بي ، و عجزت عن النطق للحظات... نسمع عن حوادث مشابهة في نشرات الأخبار، نقرأ عنها في الصحف، و لكننا لا نصدق أبدا أنها قد تصيب أحد معارفنا، أو أن تقع قريبا من دارنا... أيعقل يا ربي؟؟ جريمة بشعة كهذه في بلدي الحبيب الآمن الذي أتحرق شوقا إليه ؟؟!!..
ثم سمعت ما يشبه صوتي يسأل
'من؟'
'بواب العمارة.. لقد بكتها كل بيروت..'
لم أجد في نفسي الشجاعة للسؤال عن تفاصيل أكثر.. محاولة لإنكار ما حدث.. كان وقع الخبر أضخم من أن يدركه عقلي.. إستجديت ذهني لتغيير الموضوع..
'و ما أخبار أميرة؟ هل أجريت لها العملية؟'
'ادعي لها يا ابنتي.. حالتها متأخرة.. الأمل ضئيل جدا..'
صمت ثقيل من جديد... لقد انتشر الورم الخبيث في جسدها الصغير، فتلاشت ابنة الإثني عشر ربيعا..
ثم...
'الدنيا كلها مآسي.. زوجة البواب أم قاسم ، تركت بيتها القروي صباحا لكي توصل أبناءها الى المدرسة. عادت لتجد النيران قد التهمته تماما، و فيه ابنتها الرضيعة..'
في تلك اللحظة لم أعد أتمالك نفسي.. تذكرت ابنتي التي لم تكتب لها الحياة سوى ثوان معدودات.. تذكرت كيف أحسست وقتها بالفرااااااغ.. شعور لا يوصف.. أحاسيس كثيرة اجتمعت كلها في آن واحد، فكأنما ألغت بعضها بعضا، و ولدت إحساسا واحدا ثقيلا باللامبالاة.. لا شيء له قيمة.. لا شيء يهم.. لا معنى.. لا جدوى.. عدم اكتراث.. كأنما الدنيا تلاشت في عيني هباء منثورا...
ها هي أم أخرى تفقد طفلتها بعد التعلق بها لأشهر.. و تلك أميرة تذوب أمام أعين والديها بعد اثنتي عشرة عاما.. و تغتصب حياة سارة في زهرة عمرها.. و مئات، بل آلاف الأمهات الثكالى في فلسطين و العراق يفقدن فلذات أكبادهن كل يوم...
فانية هي هذه الحياة الدنيا.. الدنيا.. حقا إنها لدنيا... أجلى حق فيها الموت.. الموت الذي لا يعرف فرقا بين جنين و رضيع و طفل و شاب و شيخ هرم..
نعم.. الموت حق.. و ما من نفس إلا ذائقة الموت، و لا تدري نفس بأي أجل تموت...
فلم التباطؤ إذن، و علام الإتكال، و فيم التردد في سلوك منهج مستقيم لأيامنا المعدودات؟؟...
جاء صوتها من بعيييييد... ' ذكرت أنك في ضيق ؟ ' ... فأضحكني ..
والله لقد نسيت سبب ضيقي.. من يرى مصيبة غيره تهون عليه مصيبته.. كم نحن في نعيم لا نقدره حق قدره حتى نفقده.. الصحة، الأمن، البنون، الإستقرار... نعم تغمرنا كيفما قلبنا أبصارنا (و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)...
قبل أقل من ساعة كنت أدعو الله أن يفرج كربتي و يزيل عني الهم و الغم الذي يكاد قلبي لا يطيقه.. و ها أنا الآن يغمرني إحساس بالفضل و المنة و الحياء من الله تعالى... فسبحان الواحد الأحد مغير الأحوال.. و سبحان الخالق العلي الكبير الذي جعل أمر المسلم كله له خير.. و سبحان الله الغزيز الحكيم الذي بث لنا آياته في الآفاق و في أنفسنا، و جعل لنا في كل حدث موعظة و عبرة لمن اعتبر..
و الحمدلله رب العالمين
الروابط المفضلة