بسم الله الرحمن الرحيم
(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) القصص 56
إستوقفتني هذه الآية اليوم أثناء قراءتي لتفسيرها. بالطبع لقد قرأتها مرارا و تكرارا عبر السنين، و لكنني لم أفهم معناها حق فهمه إلا حديثا..
تذكرت أيام الجامعة حينما كنت أصنف زميلاتي قبل دعوتهن إلى محاضرة أو ندوة أو حلقة علم.. هذه يرتجى منها خيرا، و تلك بعيدة عن الله، و أخرى لا أمل منها... تصنيفات لا أساس لها سوى المظهر من ملبس و حديث و ما شابه.. سبحان الله.. كأن باب الهداية مفتوح أمام ناس دون غيرهم، و أنا قد نصبت نفسي مشرفة على هذا الباب...
ثم قدمت الى هذه البلاد حيث المسلمين قلة متغربة، و تعرفت الى بعض الأخوات الايرلنديات الحديثات عهد بالاسلام. معظم هؤلاء يعتنقن الاسلام بعد زواجهن من مسلمين، فالنشاط الدعوي هنا محدود جدا، ربما بسبب ضئالة حجم الجالية الاسلامية..
كنت كلما اجتمعت بهؤلاء النسوة الايرلنديات المسلمات لأساعدهن على تلاوة القرآن الكريم و لأجيبهن على جزء بسيط من استفساراتهن على حسب معرفتي المحدودة، أخذت دروسا في الإخلاص و الصدق لما أرى في أعينهن من تعطش للمعرفة و محبة صادقة لهذا الدين ... دروسا في الاخلاص و الصدق، و إحساسا بالذنب العظيم للتقصير بحق نفسي في التزود من العلوم الدينية و التقصير بحق هؤلاء في الدعوة و التعلم، و تقديرا للنعم التي أنعمها الله علينا كمسلمين عرب لم أكن أقدرها حق قدرها، و إدراكا و فهما لكثير من المعاني الحديث عنها جميعا يطول كثيرا... موضوعي الأساسي هنا هو إحداها..
منذ أول يوم تعرفت به عليها، أحسست أن حنيفة -جينا سابقا - متميزة عن الأخريات. كلهن محبات و مشتاقات لطلب العلم، و لكن في عيني حنيفة بريق عزم و استقامة كان دائما يذكرني بقول النبي عليه الصلاة و السلام لأحد صحابته الكرام، معاذ بن جبل رضي الله عنه على حسب ما أذكر 'عرفت فالزم'. لا تعرف التهاون و لا التسويف و لا التفريط..
في أحد الأيام، أمضينا ساعة كاملة في تركيز لفظ آية واحدة من سورة الطارق.. شكرتني و الدمع يملأ عينيها، فأجبتها بأنها هي من يستحق الشكر إذ أني أتعلم منها الكثير الكثير، و طلبت منها أن تحكي لي قصة إسلامها. كنت أنتظر منها ما اعتدت على سماعه؛ شيئا من قبيل: 'تعرفت على رجل مسلم'... أو في حالات نادرة، 'كانت لي جارة أو زميلة عمل مسلمة'.. ولكنها فاجأتني بقولها: هل لديك متسع من الوقت؟ فرحلة هدايتي طويلة...
تقول حنيفة أنها وجدت نفسها في العشرين من عمرها، أما لطفلين من غير زواج، و الوالد غير معترف بولديه مما اضطرها لترك دراستها و العمل كنادلة في ملهى ليلي لإعالتهما، تدخن بكثرة، و تتناسى همومها بالخمر و السكر كل ليلة.. بقيت على هذه الحال إلى أن وقع الحدث الذي هز أعماقها و غير مجرى حياتها.. توفي عمها في ريعان شبابه بسبب التدخين، و كفى بالموت واعظا... دفعتها الصدمة الى التفكير في معنى و جدوى الحياة الانسانية، و كان أشد ما يؤرق بالها سؤال واحد: لماذا يدمر الإنسان نفسه؟ أليس من حق نفسه عليه أن يحفظها و يحفظ قيمتها؟؟ ... كانت حنيفة من السعداء إذ أنها اتعظت بغيرها، فقد قررت منذ تلك اللحظة أن تمسك ذمام حياتها.. أولى الخطوات كانت المحافظة على جسدها الذي خلقه الله في احسن تقويم، فتوقفت عن ضخ سموم الدخان فيه.. ثم امتنعت عن الخمر تماما حفظا لما وهبت من نعمة العقل. حين صفا ذهنها، و انجلت عنه غشاوة التيه و الغفلة، أيقنت أختنا أن للقلب و الروح حقا لن تنعم بعيش كريم من دون إدراكه، فكان قرارها البحث عن الحقيقة..
جمعت خلال اسابيع أكبر قدر تيسر لها من كتب سماوية و عقائدية لمختلف الأديان و الملل. رأت أن تبدأ بالتعرف على دينها عن كثب، فكانت كلما تعمقت فيه أكثر، زادت حيرتها و قلقها.. انتقلت الى الطوائف الأخرى و لكن بلا جدوى.. تقول أنها لما لم تجد مستقرا لنفسها في ظل الدين الذي نشأت عليه، أصيبت بخيبة أمل كبيرة، و لكنها لم تيأس، بل توجهت الى الديانات الأخرى، علها تجد في إحداها سؤلها..
انشرح صدرها للقرآن الكريم و أحست أنه 'مختلف' عن كل ما سبق.. وجدت فيه ما يحاكي العقل و يلامس القلب في آن، و لكن الشيطان الرجيم لم يكن ليدعها بسلام، فعظم لها آيات الترهيب مثل (إن الله شديد العقاب)... و زين لها البوذية 'الأكثر لينا' فقررت أن تسلك مسلك أهلها..
لم يكن الله تبارك و تعالى ليدع من جاء اليه بقلب سليم ليتيه عن الحق، فألزم حنيفة إحساسا بعدم الراحة المطلقة، و أراها كتابه العزيز في منامها، فاستجابت لربها و عادت الى الحق..
توجهت إلى أقرب مكتبة عامة، و طلبت كل ما توفر لديهم من كتب عن الإسلام، فزودوها بكتاب يتيم.. مذكرات أميرة سعودية تروي فيها قصة معاناتها في بلاد الاسلام، وصولا الى هروبها و تحررها من كل القيود... حطمت الأميرة قيد الزواج، في حين تاقت نفس حنيفة لتجد من تسكن إليه مع صغيريها.. شمرت الأميرة عن ساعديها في ساحة العمل، بينما حلمت حنيفة بمن يحمل عنها المسؤولية و يعيلها هي و أطفالها.. تحررت الأميرة الى عالم يغشيه دخان السجائر؛ قاتل عم حنيفة... لم تنطوي آخر صفحة من صفحات ذلك الكتاب، إلا و انطوت معه آخر ذرة شك في قلب حنيفة أن حريتها و عزتها و كرامة انسانيتها تكمن في ظل هذا الدين الحنيف...
شرك.. زنى.. خمر.. تدخين.. و لكن الله يهدي من يشاء، و هو أعلم بالمهتدين.. أي أن الله أعلم بمن يستحق الهداية لما يجد في نفسه من استعداد للإيمان.. لقد هدى الله عز و جل من تجرأ على حدوده من الكبائر الموبقات..فهذه دعوة لنفسي و لكم: دعونا لا نغتر بالمظاهر، و لا نبخل على أحد بالدعوة و التذكرة، فنحن لا نعلم ما تخفي الصدور.. (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الذاريات 55
والحمدلله رب العالمين
الروابط المفضلة