بقلم.د.محمد عباس
كان تقديري للأمر أن ما حدث هو خطة لم يعرف لها التاريخ مثيلا.. و أنه – كما يقولون – أنجح ( عملية إرهاب..!) في التاريخ.. وأن التخطيط كان عبقريا والنجاح في التنفيذ كان مذهلا.. والإعداد كان طويلا ومضنيا.. وحجم الاختراق للمؤسسات الأمريكية كان هائلا..
في كل ركن من الأرض يوجد للدموع سبب ولون وطعم.. إلا في عالمنا العربي.. فقد كان سببها إظهار ولاء العبد للسيد.. وكان لونها لون العار .. وطعمها طعم الذل.. .....!!
يتبع .......
كنت أريد، ولو على سبيل التظاهر أن أساهم في طوفان دموع التماسيح المتهاطلة من أربعة أركان العالم حزنا على خسائر أمريكا وقتلاها..
كنت أريد..
لكنني اكتشفت أن رصيدي من الدموع مستنزف منذ مائة عام ومحجوز لمائة عام أخرى..
نعم..
كنت أريد أن أشارك في طوفان دموع التماسيح من أربعة أركان العالم.. لكنني اكتشفت، أنني في وسط النوازل الهائلة والهوائل النازلة والملاحم والفتن، لم أملك الوقت أبدا لأبكى شهداءنا.. وأن الدموع المستحقة لهم دين علىّ، وأنه ديْن لا يسقط بالتقادم، و أن عليّ أن أؤديه قضاء ما دمت قد عجزت عن تأديته في حين حدوثه..
كنت أريد أن أشارك .. لكن دموعي مرهونة لقرن قادم، ربما بعدها يأتي الدور لأبكى خمسة آلاف أو حتى خمسين ألف أمريكي قتيل..
هل قلت : خمسة آلاف؟..
هل قلت خمسين ألفا؟!..
ياله من رقم ضئيل..
نعم.. رقم ضئيل .. ولن أعجز عن سداد حقه من دموع التماسيح.. ولكن بعد أن أؤدي ما على من دين من الدموع..
-ديْن لفلسطين: 261000 شهيد و 186000 جريح و 161000 معوق وهجرة مليونين تحولوا إلى خمسة ملايين لاجئ.
- وديْن للبنان : 90000 شهيد و 115000 جريح و 96270 معوق.
- ودين لمصر 39000 شهيد و 73000 جريح و 61000 معوق.
الأرقام الباقية غير دقيقة أو غير متاحة لكنها تشير إلى ثلاثين ألف شهيد سوري وخمسة آلاف أردني، ويحصر أنتوني كرودسمان إجمالي الخسائر البشرية المباشرة في الحرب العربية الإسرائيلية-متجاهلا الشهداء الفلسطينيين- فيبلغ عددهم 184249 شهيدا منهم 74533 من العسكريين و 109516 من المدنيين.
109516 شهيد مدني يا صناع السلام لم يأبه لهم عالمكم المتحضر ولم يذرف عليهم دمعة واحدة..
نعم..
كنت أريد أن أشارك – ولو على سبيل التظاهر – بذرف دموع تتهاطل في أربعة أركان الأرض، وفى كل ركن من الأرض يوجد للدموع سبب ولون وطعم.. فما بين مشاركة حقيقية لوحدة المصير بين طغاة العالم والتاريخ الذين اكتشفوا فجأة أن زعيمهم يمكن أن يضرب و أن الرجل المسيحي الأبيض يمكن أن يصرخ ويتألم وينزف الدماء .. ويموت.. فإذا كانت أمريكا ضُربت بهذه القوة: فماذا سيحدث لهم؟ .. وما بين مجاملة لا يخسر من يؤديها شيئا.. وما بين مستفيد من أرباح الحرب القادمة التي ستقود أمريكا العالم إليها..
في كل ركن من الأرض يوجد للدموع سبب ولون وطعم.. إلا في عالمنا العربي.. فقد كان سببها إظهار ولاء العبد للسيد.. وكان لونها لون العار .. وطعمها طعم الذل..
تماما.. كرجل يترك بيته المهدم.. و أشلاء أبنائه.. ودماء أهله .. وماله السليب ليصرخ مشاركا بدموع هي لا ريب دموع التماسيح يذرفها من أجل جرح بسيط جدا ألمّ بإصبع من فعل به كل هذا.. من هدم بيته.. وقتل أهله.. وسلب أرضه .. وسرق ماله..
يترك هذا الديوث دماء أكثر من أربعمائة ألف شهيد مدني ( فالأرقام السابقة تعود إلى بداية التسعينيات من القرن العشرين) هم ضحايانا المباشرون بسبب إسرائيل بسلاح أمريكي..
هل قلت سلاحا؟..
يا لى من ساذج غبي ضللته دعايات ولاة أمره..
لقد كانت أمريكا هي القاتل الرئيسي.. بل الوحيد.. ولم تكن إسرائيل سوى قفاز لها ضغط الزناد.. أو على الأحرى ضُغط من خلاله على الزناد..
هذه الأرقام رغم فداحتها يمكن أن تتضاعف لو أضفنا إليها ضحايا الفتن التي أشعلتها إسرائيل في عالمنا العربي ..
ثم أن هذه الأضعاف المضاعفة يمكن أن تتضاعف مرة أخرى إذا أضفنا ضحايا أمريكا وحلفائها في عالمنا العربي والإسلامي..
مليون ونصف المليون في الجزائر..
مليونان في العراق..
مليون في إيران..
ولن نتكلم عن الأسري الذين قتلوا أحياء..
ولا عن آلام أمهات ثكلت.. وزوجات ترملت.. وخمسة عشر مليون طفل – على الأقل – تيتموا..
علىّ ديون من الدموع هي حق مستحق لخمسة ملايين من أهلي.. ثم تريدون منى أن أترك كل هذا لأبكى خمسة آلاف أمريكي.. فإن لم أفعل كنت إرهابيا ووحشا..
تريدون منى دموعا على مصرع مدنيين مسالمين.. فهل كانت سلوى حجازي جنرالا.. أم كان أطفال بحر البقر مشاة في البحرية أم كان عمال أبى زعبل طيارين أم كانت السويس التي لم يبق فيها منزل قائم أم الإسماعيلية التي شهدت دمارا رهيبا أم ليبيا أم العراق أم مصنع الشفاء في السودان.. أم.. أم.. أم..
تريدون منى دموعا عاجلة على عمارتين أو ثلاث .. ياله من أمر مضحك.. فكيف يأسى على عمارتين من عرف منكم وبكم كيف تهدم أوطان وتمحى مدن.. وتقصف ملاجئ هرع إليها الناس التماسا للحماية والأمان..
أم نسينا قانا والعامرية..
كان ما حدث في مخبأ العامرية مجدا للشيطان و أي مجد …
ومجدا للأمريكان و أي مجد..
هاجمت طائرة أمريكية من نوع الشبح ملجأ العامرية بصاروخ موجه بالليزر: " … محدثا فتحة في السطح والسقف وانفجر في مستشفى الملجأ، وبعد أربع دقائق وجه صاروخ آخر غبر الفتحة نفسها التي أحدثها الصاروخ الأول، و أغلق انفجار الصاروخ الثاني الأبواب الفولاذية التي يبلغ وزنها ستة أطنان وسمكها نصف متر، وأحرق مئات عدة من الأشخاص ، في الطابق الأعلى تبخر كثيرون منهم بالحرارة، التي بلغت درجتها آلافا عدة والمتولدة من الانفجار، وكان مصير مئات عدة من الأشخاص الغليان حتى الموت في مياه المراجل الضخمة المدمرة في الانفجار، لا يُعرف على وجه التأكيد عدد المدنيين الذين قُتلوا في ملجأ العامرية في تلك الليلة، كان السجل المدونة به أسماء الأشخاص الذين احتموا بالملجأ قد أودع في الملجأ نفسه ولم يعد له أثر ، ولكن من المعروف أنه قبل تلك الليلة، كان 1500 شخص يوقعون عند دخول الملجأ كل ليلة، وعُثر بعد المجزرة على أحد عشر شخصا قُذف بهم خارج الملجأ، وبعد ساعات عدة مرعبة استُخرجت من البناية البقايا السوداء المشوهة لأربعمائة وثلاثة أشخاص، وقدر أن مئات عدة من الأشخاص قد احترقوا وتبخروا ولم تعد ثمة وسيلة لتحديد هويتهم أو حتى عددهم، ووصف شهود منهم تام دالى، العضو العمالى في البرلمان البريطانى آثار النساء والأطفال المتفحمة على جدران الملجأ، تفحمت طبعات أقدام و أيد صغيرة على الجدران والسقوف وانطبعت على جدران الطابق الأسفل عند علامة الماء في الخزانات المتفجرة آثار اللحم البشرى على ارتفاع خمسة أقدام…"
كل هذا ثم يحتجون لأن العراق لم يندد بما حدث لخمسة آلاف أمريكي وعمارتين.
و باول، يتهم صدام حسين في إنسانيته لأنه لم يحزن من أجل خمسة آلاف أمريكي.. ونسى أنه على يديه قُتل مليون عراقي، وعلى أيدي قومه مات مليون آخر، ونسى باول ملجأ العامرية.
يالها من خسة.. وياله من عار..
**
كنت أريد، ولو على سبيل التظاهر أن أساهم في طوفان دموع التماسيح المتهاطلة من أربعة أركان العالم حزنا على خسائر أمريكا وقتلاها..
كنت أريد أن أفعل ذلك.. إن لم يكن خوفا من أمريكا فخوفا من حلفائها بيننا .. ( من تسميهم أمريكا: الحلفاء .. تسميهم الأمة : العملاء ) .. وإن لم يكن هذا ولا ذاك.. فلمجرد الاستجابة لأولئك الأصدقاء الحميمين .. تهاطلت النصائح علىّ.. كن متوازنا.. متعادلا.. لا تظهر فرحا ولا شماتة.. ولا تتورط في تأييد الإرهاب.. لا تعط أعداء الداخل والخارج فرصة ينفذون منها إلينا
**
وعندما جلست للكتابة كانت هذه النصائح – التي لا أشك في إخلاصها – تدوي في أذنىّ بصوت كطنين النحل..
أبت الكلمات أن تطيعني.. و أبى القلم..
ضجّت روحي : هل تخون الله؟..
جأرت نفسي: هل تخون خمسة ملايين قتيل وشرذمة أمة وتفتيت أوطان وتدمير وجود..
أنّ ضميري: هل تخون نفسك؟..
ثم راح عقلي يحلل المسألة..
لن أفعل ما يريدون منى ومن الأمة أن تفعله.. ولن نخجل مما يجب أن نفخر به لنفخر بما يجب أن نخجل منه..
فليعتقلونا.. وليذبحونا .. ولينشروا عنا الأكاذيب..
فأن يفعلوا ذلك بالباطل خير لنا من أن يفعلوه بالحق..
نعم .. نحن – بهدى من ديننا – ليس ضد قتل البشر فقط.. بل ضد تجويع هرة أو قطع شجرة.. يعصم الآخرين منا ألا يظلمونا.. فإن فعلوا.. فعلينا أن نعاقبهم بمثل ما عاقبونا به.. وحتى في هذه.. فقد حضنا ديننا على الصبر.. لكنه صبر القادر لا صبر العاجز.. صبر العفو عند المقدرة..
**
ثم أنني بعد ذلك كله لم أشعر بشماتة ولا بفرح.. فللموت جلاله حتى ولو كان من يموت كلبا.. فما بالنا بخمسة آلاف نفس..
على العكس.. كنت أجلس أمام التلفاز والدموع تملأ عينىّ..
لا..
أعترف..
ليس إشفاقا.. ولا تعاطفا..
و إنما رعب من الله.. القوى القهار العزيز المذل المنتقم العادل.. وكيف يأخذ الطغاة أخذ عزيز مقتدر.. يأخذهم في اللحظة التي بلغ ازدهاؤهم بأنفسهم فيها أن ظنوا أنهم قد ملكوا أقطار الأرض و أصبحوا قادرين عليها..
يأخذهم ويحيط بهم من حيث لم يحتسبوا..
**
تتحدث الأسطورة الإغريقية القديمة عن البطل أخيلوس، الذي حابته الآلهة ( أستغفر الله مما يقولون لكن هكذا تقول الأسطورة) فقررت أن تمنحه الخلد فغمسته في مائه فأصبح جسمه كله محصنا ضد الهلاك ما عدا جزء صغير أعلى كعبي قدميه..كان من يغمسه في ماء الخلد يمسكه من هذه النقطة فلم يصل ماء الخلد إليها ( مازال هذا الجزء أعلى القدم يسمى حتى الآن باسم : وتر أخيلوس) .. وكبر أخيلوس ليصبح البطل الذي لا يقهر، وظن أنه قادر على الدنيا وما فيها حتى اكتشف أحد أعدائه نقطة ضعفه.. فرماه بسهم أعلى كعبه .. فمات البطل الأسطوري الذي لا يقهر والذي ظن لنفسه الخلد..
كان تقديري للأمر أن ما حدث هو خطة لم يعرف لها التاريخ مثيلا.. و أنه – كما يقولون – أنجح ( عملية إرهاب..!) في التاريخ.. وأن التخطيط كان عبقريا والنجاح في التنفيذ كان مذهلا.. والإعداد كان طويلا ومضنيا.. وحجم الاختراق للمؤسسات الأمريكية كان هائلا..
كان العبقري في الأمر أكثر من أي شئ آخر هو اكتشاف وتر أخيلوس الأمريكي.. الجزء الهش غير المحصن.. والذي يمكن النيل من أمريكا بإصابته.. وهو ليس جزءا بعرض الإصبع كما في أخيلوس.. بل مساحة شاسعة تغطى أمريكا كلها وامتداداتها في الخارج..
نعم كان العبقري كشف هشاشة أمريكا و إمكانية إصابتها في مقتل..
كل العملية كان عبقريا.. ابتداء من التمرن على قيادة الطائرات إلى اختراق الشفرة إلى معرفة الأماكن التي تضرب.. إلى التزامن الأسطوري.. وعلى سبيل المثال فإن الاصطدام بناطحات السحاب لم يكن ليأتى بهذا الأثر المدمر لو حدث الارتطام أعلى قليلا أو أوطى قليلا مما حدث.. وأن حدوثه بين الطابق الثمانين والخامس والثمانين قد خلخل هذه الأدوار وترك خمسة وعشرين طابقا غير مستقرة.. لتهوى هذه الطوابق العليا الخمسة والعشرين بكل ثقلها على باقى الأدوار الثمانين كمطرقة ضخمة فتدكها دكا..
وعلى سبيل المثال أيضا فإن الطائرة التي ارتطمت بالبنتاجون لم ترتطم بأي مكان فيه.. بل ارتطمت بمكان كان يتوقع أن يكون فيه بوش.. وكان المخطط فعلا أن يكون فيه بعد ساعتين..
الخطة عبقرية والتخطيط متقن والاختراق هائل والتنفيذ مذهل وكنت أرى أن المسلمين هم آخر المشتبه فيهم.. ليس لأنهم يفتقدون العبقرية والذكاء.. ولكن لأن أمريكا – راعية العالم الحر تحاصرهم وتقف دونهم فلا تسمح حتى لحلفائها بتجاوز نقاط معينة في العلم والتكنولوجيا.. ولنتذكر الطائرة المصرية التي أسقطوها.. لأنهم اكتشفوا أن بعض خبرائها قد تجاوزا معرفة المسموح لهم به.
هذا هو الشق الأول في الأمر..
الشق الثاني: أن كفاءة العملية تبدو كما لو أنها عملية دولة وليست عملية أفراد أو منظمات.. لكن.. يستبعد هذا الافتراض أن مثل هذه الدولة ستمحى من الوجود محوا إذا ما تم اكتشافها..
الشق الثالث: أن عملية كهذه من يقدر عليها ليس لديه الدوافع لتنفيذها ومن لديه الدواعي لا يقدر..
فإذا استبعدنا المسلمين – ولو مؤقتا – لا تبقى لدينا سوى جهات قليلة تستطيع القيام بهذا العمل الخارق..( وفرق بين الخارق والأخرق!)..
الروابط المفضلة