جديد/ مقال رائع للشيخ سلمان ... ( وحدة الصف لا وحدة الرأي ) 13/3/1423هـ
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .
في محكمات الكتاب الكريم ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الآيات الكثيرة والأحاديث الصحيحة البليغة الآمرة بالاجتماع ، والناهية عن التفرق ، حتى أصبح هذا الأمر من البدهيات المستقرة عند كل مسلم ، يقول الله تعالى : ] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ [آل عمران: 103 ـ 105] .
ويقول الله تعالى: ] وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[ [الأنفال: من الآية46] ، ويقول I : ] وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [[العصر: 1ـ3] إلى غير ذلك من النصوص ؛ ولهذا أصبحت الجماعة والاجتماع على الخير والطاعة من ضروريات الدين ومحكماته ، والعبادات العامة كالصلاة ، والصوم والحج ، والأعياد وغيرها دليل عملي على ذلك .
ووصايا النبي صلى الله عليه وسلم والأحاديث في هذا كثيرة جداً ، لعل من أشهرها حديث مسلم (1715) ( إن الله يرضى لكم ثلاثاً (وذكر منها) أن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) فهذه الحقيقة واضحة وبدهية ومستقرة في حس كل مسلم ، لكن الشأن في تفعيلها ؛ لأن كثيراً من الإخوة يكون عندهم غيرة شديدة جداً على الدين ، وحرص عظيم على الوحدة ، لكن يفتقدون آلية تطبيق هذه الوحدة ، وبذلك يصبح الإنسان ـ وهو يتباكى على وحدة المسلمين ، وعلى اجتماع كلمتهم ، واجتماع صفهم ـ كأنه يريد من الناس أن يجتمعوا على قناعاته ، وآرائه ، واختياراته ، واجتهاداته ، وهذا أمر متعذر ؛ لأن الناس لم يجتمعوا على من هو خير منه ؛ فأولى أن لا يجتمعوا عليه .
إنما الشأن في القدرة على وجود منهجية نتقبل فيها الخلاف ، بحيث تكون فيها الوحدة على أصول شرعية صحيحة ، وليست على آراء أو اجتهادات خاصة لفرد أو فئة أو طائفة من الناس .
أما وحدة الصف فتعني في الأصل أمة واحدة تحت سلطان واحد يحكمها بشريعة الله سبحانه وتعالى ، وهذا كان منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عهود الخلفاء الراشدين ، ثم عهود الأمم والدول الإسلامية المستقرة التي كانت تحكم المسلمين في مشرق الأرض وفي مغربها ، ويدين لها بالطاعة أهل الإسلام كافة .
ولهذا جاء في السنة النبوية من الأحاديث ، والأحكام الصارمة في هذا ما يتعجب منه الإنسان ، منها على سبيل المثال قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من فارق الجماعة شبراً فمات فَمِيتَةٌ جاهلية ) والحديث متفق عليه عند البخاري (7054) ومسلم (1849) من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ) و المعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بالغ في التحذير من الخلاف والفرقة ، والحث على الاجتماع والوحدة بحيث إن من خالف ذلك لقي الله ـ تعالى ـ يوم القيامة وليس لـه حجة ، ( ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ) رواه مسلم (1850) عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ وكذلك الحديث الثالث ( إنه ستكون هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ ـ أي: أحوال وفتن ـ فمن أراد أن يُفَرِّق أمر هذه الأمة , وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان ) رواه مسلم (1852) عن عرفجة ـ رضي الله عنه ـ ، وإذا كان هذا أمراً مضى ، وعقد المسلمين قد انفرط منذ فترة طويلة ، وتحولت الدولة الإسلامية الكبيرة إلى دول كثيرة تحكم بأجزاء من الشريعة ، ولا تحكم بأجزاء أخرى , ويكون بينها من الاتفاق ومن الاختلاف ما هو معروف مشهور ، فلا شك أن ذلك الواجب المطلوب من المسلمين في الأصل ، ينتقل إلى المحافظة على المعنى الذي ترمي إليه الشريعة ، وهو صلاح دين المسلمين وصلاح دنياهم ؛ لأن أصل نظام الخلافة ، ونظام الحكم في الإسلام إنما شرع من أجل حفظ الدين وحفظ الدنيا ، كما قال ابن تيمية في السياسة الشرعية : إن المقصود هو حفظ الدين وسياسة الدنيا به .
فينتقل الواجب إلى المحافظة على المعنى ، وهو صلاح دين المسلمين وصلاح دنياهم ، فمما يدخل في هذا ويجب على المسلمين السعي في تحصيله :
أولاً : سلامة الصدور والنفوس من الأغلال ، والأحقاد ، والكراهية ، والضغائن ، والبغضاء وأن يحل محلها التسامح والتغافر والتعاذر والرحمة والشفقة (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ ) [الفتح: من الآية29] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة .
ثانياً : التعاون على البر والتقوى , وترك التعاون على الإثم والعدوان ، كما أمر الله ، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .
ثالثاً : العمل ما أمكن في خطوط متوازية ومتعاضدة غير متقاطعة ولا متعاندة ؛ لأن في الناس من لديه همة لإحياء شعيرة من شعائر الدين ، وفيهم من لديه همة لإحياء شعيرة أخرى ، وفي كل خير ، وافتعال الخصومة أو التعاند بين هذه الأعمال الإسلامية المختلفة قد يضيع كثيراً من الجهود ، ويهدر كثيراً من الطاقات ، ويُقعِد الناس عن العمل ، ويحدث عند كثير من العوام ـ بل عند بعض المبتدئين من طلبة العلم ـ نوعاً من البلبلة ، والاختلاط ، والتردد ، والضعف ، وقد يؤثر كثيرٌ منهم أن يبتعد عن المجالات الإسلامية ، والعمل الإسلامي ، والخير والدعوة ، والعلم لما يرى من العداوات ، والبغضاء والتناحر ، ويطلب السلامة لقلبه والسلامة لنفسه في أجواء آمنة هادئة مستقرة ، حتى ولو لم يكن فيها عمل ولا خير ، ولكنها أجواء طبعية بعيدة عن مثل هذا التوتر .
رابعاً : إحياء مبدأ النصيحة ، ومبدأ النصرة كما في الحديث الذي رواه البخاري (6952) عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فقال رجل : يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً ؛ أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره ؟ قال: ( تحجزه أو تمنعه من الظلم ؛ فإن ذلك نصره ) ، وفي لفظ ( تأخذ فوق يديه ) عند البخاري (2444) من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ ، وفي لفظ ( تأخذ من نفسه لنفسه ) أي : تأخذ منه ولا تنصره على الباطل ، ولا تواليه ولاءً مطلقاً عاماً في الخير والشر ، وفي الحق والباطل ، وإنما تكون معه على الخير ، وتكون ضده على الخطأ ؛ فلا عصبية لشيخ ولا لمتبوع ، ولا لإمام ، ولا لشخص ، ولا لداعية ، ولا لجماعة ، ولا لطائفة ، ولا لمذهب ؛ وإنما الولاء للحق ، والحق يكون تارة مع هذا وتارة مع هذا ، وأحياناً يكون في الموقف الواحد جزء من الحق مع هذا ، وجزء من الحق مع ذاك ، ويمكن للإنسان مع التدرب أن يتعود كيف يستطيع أن يبحث عن الحق ، لا يلزم أن يصيبه دائماً , لكن أن يبحث عنه هنا وهناك ، حتى لو كان في مقتبل تكوينه ودراسته .
خامساً: ومما يدخل في ذلك الاجتماع على محكمات الشريعة كما يسميها العلماء ، التي أجمع عليها السلف الصالح ، وقبول الخلاف فيما اختلفوا فيه .
فنتفق ونُجمع على ما اجمعوا عليه من محكمات الشريعة ، ونقبل الاختلاف فيما اختلف السلف الصالح فيه ؛ فإذا ثبت أن الصحابة yقد اختلفوا ، أو الأئمة من السلف الصالح فلا تثريب ولا غرابة أن يقع هذا الاختلاف فيمن كان بعدهم .
وهناك أشياء تناقض هذا المعنى ، وهي كثيرة منها:
أولاً : تنزيل النصوص على غير وجهها واعتبار أن الأحاديث الواردة بلزوم الجماعة تنطبق على جماعة خاصة ، أو تنظيم معين ، أو حزب ، أو طائفة ؛ فهذا لا شك أنه قلب للحديث النبوي من كونه دعوة للمسلمين للاجتماع على هذه السلطة العامة المتفق عليها إلى أن يكون اختلافاً ؛ فكل طائفة أو جماعة أو حزب يعتبر هذه الأحاديث خاصة به ، ويلزم الناس بالاتفاق عليه وبيعته وطاعته واتباعه ، ويعتبر من ليس كذلك ؛ أنه قد نزع يداً من طاعة ، وخلع ربقة الإسلام من عنقه ، وإن مات على ذلك فميتته جاهلية ، ويلقى الله يوم القيامة ولا حجة له إلى غير ذلك مما يقع للناس كثيراً ، وهذا مصداق ما أخبر الله ـ تعالى ـ به ] كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ[ (المؤمنون:53) ؛ فكل طائفة أو جماعة ترى نفسها واجبة اللزوم واجبة الاتباع ، ولا ترى هذا الحق لغيرها .
ثانياً: أن يقوم وجود المرء على أساس تقويض جهود إسلامية أخرى صحيحة ، ليست جهوداً ضالة ، ولا مبتدعة ، ولا محاربة للإسلام ؛ وإنما جهود صحيحة ، وعلى منهج ـ في الجملة ـ سليم ، لكنه يختلف معها في مسائل وجزئيات واجتهادات في تنزيل بعض النصوص على بعض الأحوال ، وهذا مما لا سبيل إلى الفرار منه ؛ فمن الخطأ أن يكون الجهد في ما يكتب ، وما يقال يصب في محاولة مصادرة الآخرين ، أو القضاء عليهم ، أو التحذير منهم أو ما أشبه ذلك من المعاني ، حتى لو افترض أن عندهم شيئاً من التقصير ؛ فهناك من هو أشد تقصيراً منهم ، هناك الكفار الأصليون الظاهرون وجوداً ، والظاهرون قوة وتمكيناً ، وهناك أهل البدعة الظاهرة المتحزبون على بدعهم ، فالاختلاف والتناحر داخل الإطار العام ، الذي أجمع عليه السلف الصالحون ، ليس من المصلحة في شيء .
ثالثاً : الاجتماع على معان خاصة ، أو فروع اجتهادية محتملة ، قد تفصلنا عن الآخرين ، وتجعلنا عرضة للانشقاق ولو بعد حين ؛ لأنها بطبيعتها ليست ثابتة ، بل متغيرة ، و ليست أصولاً بل فروع حولناها إلى أصول بالإلحاح عليها ، وتكبيرها ، وإلا فهي في ابتداءها قد تكون فروعاً اجتهادية ، أو محاولات دعوية لها جوانب خير ، لكن لا يصح أن تتحول إلى أصول .
-------------------
الإسلام اليوم
http://www.islamtoday.net/articles/...d=38&artid=1004
الروابط المفضلة