منقول منصالح المطيري
تصور لو أنك كتبت بحثا ضافيا وموثقا في موضوع ما، أو قصة ، أو رواية ، أو مسرحية ، ثم حدث أن ضاع منك هذا العمل قبل أن يأخذ طريقه للنشر؟
هل ستجن لذلك؟ كيف ستشعر عندها إذن؟ ربما يعتمد هذا على مدى اعتزازك بما كتبت، وتقديرك الخاص لمحتواه. لكن الأمر بالنسبة للكاتب الذي فقد شيئا من أعماله فإن ذلك يعتبر خسارة حقا، وربما تبدو له وكانه فقد عضوا من أعضائه، أو جزاء من أجزائه، إن ذلك العمل الذي ضاع قبل أن تحفظه المطابع لهو حادثة فادحة للكاتب نفسه. وإليك هذه الحالات التي وقعت لبعض الكتاب.
من ذلك ما حدث للآديب علي الطنطاوي في رحلته الأولى للحجاز في ثلاثينات القرن الماضي، والتي كانت رحلة بالغة المشقة والعنت ، في وقت كانت البلاد فيه غير معبدة الطرق ولايأمن فيها المسافر من غزو أو نهب أو سلب أو عطش او جوع . ومنذ بداية الرحلة احتفظ هذا الأديب لنفسه بدفتر يدون فيه يوميات الرحلة، وما مر به من جبال وهضاب ووديان وعرب وقبائل وأخبار ووقائع ، وما يتبع ذلك من مساجلات أدبية وأبيات فصيحة وأخرى نبطية، وما كان يـرد على مخيلته أثناء الرحلة من مشاعر وعواطف وخوف وفرح وترقب وانتظار، يعني كان عبارة عن مخزن لكل ما كان يمر بخاطره أو بناظره أو بسمعه أثناء الرحلة، لكن لما أوشكت الرحلة على التمام ووصلت الرفقة إلى مشارف المدينة امتدت يد آثمة ، فسرقت الدفتر العجيب، وضاعت معه كل تلك الجهود. يقول الطنطاوي : ولا تزال لوعة فقده في قلبي إلى اليوم ، ولو فقدت مالي لكان أهون علي ، لآن المال يعوض، والريالات والليرات والدولارات تختلف مقاديرها عددا، ولكن تتفق أفرادها شكلا، كالكتاب المطبوع يضيع منك فتشتري غيره، أما ذلك الدفتر .. فمن أين آتي بمثله؟
ومثل هذه اللوعة نجدها عند الكاتب السوري سليم بركات، يقول: كنت أعيش في بيروت وكانت لي مكتبة جيدة هناك، لكني رحلت إلى قبرص وخلفت مكتبتي ورائي فأصيبت في اجتياح بيروت، وفقدت معظمها، ولم استنقذ إلا هذا العدد من الكتب (يشير إلى رف بجانبه) ، لكن الخسارة الحقيقية ، هي ضياع شنطتي الخاصة في رحلة من تونس إلى روما وكان فيها كل أرشيفي الشخصي من الصور، من المقالات، وكتاب شعري عن الحيوان ضاع برمته.
وقد أحسست أنا بمثل هذه اللوعة في تجربة مشابهة لتجربة سليم بركات ، حيث فقدت شنطة ضمن العفش كان فيها دفتر خاص يحتوي على كتابات أدبية ونقدية أودعتها فيه، وذلك في اثناء رحلة من مدينة إلى أخرى، ولم يهدأ لي بال ليلتها، ولا في الأيام التوالي، وأنا أتصل بهذا وذاك من موظفي الخطوط، وأقسام العفش في المطارات ، والفرع الرئيسي للشركة الناقلة. وظللت على هذه الحال ثلاثة أشهر، كلما رجعت من العمل تابعت البحث والاتصال، لكني لم أفقد الأمل. فقد ذهبت إلى المقر الرئيسي للخطوط في جدة، وهناك سئلت عن مخزن العفش، فدلوني عليه ، فوجدت مكانا كبيرا كالورشة الكبيرة مكتظا بكل ما يخطر ببالك من مخلفات المسافرين والحجيج، شنط بكل المقاسات، منها ما يحمله شخص ومنها ما يحمله ثلاثة، وكراسي متحركة، وفرش وقطع أثاث وبضائع وصناديق وملابس ، يعني منظومة لا نهائية من أمتعة المسافرين . وكانت الشنط موضوعة على أرفف كبيرة يصعد إلى أعلاها بالسلم، سألني الموظف عن الشهر الذي ضاعت فيه، ثم أشار علي بالبحث في ممر محدد، بحثت أولا في الارفف السفلية فلم أظفر بطائل، عندها ارتقيت السلم وبدات بالبحث في الأرفف العلوية، لقد كانت الشنط كثيرة، لكن كم كانت سعادتي غامرة، وأنا اري شنطتي بلونها الأحمر العنابي مستقرة على متناول اليد مني، بيد أني داخلني خوف وانا افتحها، لقد خفت أن تكون امتدت إليها يد آثمة فسرقت منها ذلك الدفتر، كما حدث مع علي الطنطاوي أعلاه. لكن، والحمد لله، لم يحدث شيء من هذا ابد ، إذ وجدت محتوياتها سليمة، وفي ضمنها ذلك الدفتر الأثير، وعدت بها وأنا أشعر أني عدت بكنز وجدته مدفونا في تلك الجزيرة الميلئة بأنواع العفش وألامتعة.
الروابط المفضلة