اليَمين عَلى مَن أنكر
اللواء الركن: محمود شيت خطاب يرحمه الله
وقف أمام القاضي ، فأنكر أنه مدين بمبلغ مسمائة وألف من الدنانير لورثة الحاج إبراهيم محمد ، فطلب منه القاضي أن يُقْسِمَ بالقرآن الكريم بأنَّ الحاج إبراهيم لم يدفع له في يوم من الأيام هذا المبلغ ، وأنه ليس مديناً له ، فأقسم ثم غادر المحكمة بعد أن أفرج عنه القاضي ونطق بالحكم عليه بالبراءة .
ولم يكد يتخطَّى عتبة المحكمة إلا وسقط على الأرض ميتاً !
ذلك ما حدث في مدينة ما من مدن العراق .
ولكن القصة لا تبدأ هكذا ، فلنذكر القصة كما حدثت :
كان الحاج إبراهيم محمد من التجار الكبار ، وكان لا يردُّ طلب طالب ، ولا يخيِّب رجاء قاصد .
وفي يوم من الأيام قصده السيد ( ... ) في مكتبه الكائن في ( خان الشط ) المطل على نهر دجلة وعرض عليه أمره .
وقال السيد ( ... ) للحاج إبراهيم : (( إنني جارك ، وقد كان والدي من أصدقائك المقربين ، وحين حضرته الوفاة أوصاني أن ألتجئ إليك إذا حزبني أمر أو ضايقتني أعباء الحياة .
إنَّ الزروع في هذه السنة كما تعلم لم تعط ثمن بذارها ، فقد أمحلت الأرض وانقطع المطر وساء الحال ، فلا أعرف كيف أدبّر حالي .
وكنت قد استقرضت مالاً من المصرف ، فلا بدَّ لي من دفع ديوني له وإلا افتضح أمري وشمت بي الأعداء ...
واليوم أتيتك لتقرضني خمسمائة وألفاً من الدنانير ؛ لأدفع الدين الذي في عنقي لمصرف الرافدين ، وأشتري البذار وأدبر حالي ، وموعدي معك لوفاء دينك عليَّ في موسم حصاد الحنطة والشعير في العام المقبل )) .
وقام الحاج إبراهيم إلى خزانة نقوده في مكتبه ، وأخرج منها المبلغ ودفعه إلى السيد
( ... ) وسجَّل المبلغ في دفتر الحسابات .
وأبدى المدين شكره وأظهر امتنانه ، وأصرّ على كتابة سفتجة([1])ولكن الحاج إبراهيم قال له :
(( لا شكر على واجب ، وبيني وبينك الله ، فهو نِعم الوكيل ونعم الشهيد )) .
وبعد سنة تقريباً من هذا الحادث ، مات الحاج إبراهيم بالسكتة القلبية ، وترك زوجة وأربعة أطفال ، أكبرهم في الثالثة عشرة من عمره .
وراجعت زوج الرجل دفاتر زوجها وسجلاته التجارية ، وأعانها على ذلك أخوها المحامي ، فعرفت ما في بطون أوراقه من تفصيلات ما لزوجها من ديون على الناس .
ومرَّت الأيام والشهور على موت زوجها ، فبعثت إلى السيد ( ... ) تطالبه بما لزوجها عليه من دين ، ولكنَّ السيد ( ... ) أنكر أنه مدين بشيء لزوجها ، وزعم أنه دفع ما كان عليه من دين إلى زوجها ، وربما نسي زوجها أن يرقّن قيد الدين في سجلاته .
وتسامع الناس بالحادث ، وكان بعضهم قد سمع بأن الحاج إبراهيم كان قد أقرض السيد
( ... ) بعض المال ، فزعم للناس أنَّه وفَّى للحاج إبراهيم دينه ، ولو كان مشغول الذمة لعثر ورثة الحاج إبراهيم على سند الدين في مخلَّفاته ...
وانقسم الناس في المحلة من الجيران على قسمين :
قسم يؤيد ورثة الحاج إبراهيم ويذكرون بأنه يقرض النقود حسبة لله بدون مستند أو
سفتجة ، وقسم يؤيدون السيد ( ... ) بأنه ليس من المعقول أن يدفع الحاج إبراهيم مبلغاً ضخماً
من النقود للسيد ( ... ) بدون مستند أو سفتجة .
والتجأت زوج الحاج إبراهيم إلى بعض أهل الخير من المحلة ليحملوا السيد ( ... ) على تبديل
موقفه ، ولكنه أعرض وأصرَّ ، وتمادى واستكبر ، كأنه صخرة عاتية من صخور الجبال .
وكما أن آخر الدواء الكيّ ، فان آخر مطاف المتنازعين المحاكم ...
ووكَّلت زوج الحاج إبراهيم أخاها المحامي ليعرض شكواها على المحاكم ...
وجاء يوم المحاكمة ، وحضر المتَّهم إلى ساحة المحكمة .
واترك الكلام الآن للحاكم الأستاذ ( ... ) الذي قصَّ عليّ تفصيلات المحاكمة ، فكان مما قاله : (( كنتُ في قرارة نفسي ، مقتنعاً بأن السيد ( ... ) مدين للحاج إبراهيم بهذا المبلغ .
ولكن لم يكن هنالك دليل مادي غير تسجيل هذا المبلغ بخط الحاج إبراهيم في سجل ديونه على الناس ، وهذا الدليل وحده لا يكفي لإثبات التهمة .
ولم ينكر السيد ( ... ) بأنه استقرض هذا المبلغ من الحاج إبراهيم ، ولكنه أفاد بأنه أعاد المبلغ إلى صاحبه بعد سنة من استقراضه .
وشهد أحد الرجال ، بأنه سمع السيد ( ... ) يثني على الحاج إبراهيم ، ويذكر أنه انتشله من وهدة الفقر والحرمان باقراضه بعض المال حسبة لله ، ولكن الشاهد لم يتذكر مقدار المبلغ ولا وقت سماعه حديث السيد ( ... ) .
كانت القضية كلها كريشة في مهبّ الريح ، فحاولت أن أجر المتهم إلى الاعتراف
بالدين ، لكنه كان يفلت من الاستجواب .
إنَّ المحاكم في مثل هذه القضية ، تطبّق المبدأ القضائي : البيّنة على من ادَّعى ، واليمين على من أنكر ...
وقلت للمتهم : هل تُقسم بالقرآن الكريم ، بأنك لست مديناً للحاج إبراهيم بهذا المبلغ ولا بغيره ، وأنك دفعت ما كان له عليك من دين ؟
وقال المتهم : أُقسِم … ثم أقسَم
ونطقتُ بالحكم : البراءة ...
وخرج المتهم مرفوع الرأس شامخاً من المحكمة ، وكان ذا هامة وقامة ، صحيح البدن قويّ البنية ، سليماً معافى وهو في ريعان الشباب ...
وما كاد يغادر المحكمة ومعه المستمعون ، إلَّا وسمعت ضجَّة خارج المحكمة ، فهرعت لأتبين جليَّة الأمر ...
وصُعقتُ ، لأنني وجدت المتهم الذي كان ماثلاً أمامي قبل لحظات ممتداً على الأرض جاحظ العينين مفتوح الفم أصفر الوجه ، كأنه شجرة خبيثة
(( اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار )) ...
وهتف الناس من حوله : لقد مات .
وكانت زوج الحاج إبراهيم تسكن في دار قريبة من داري ، وكانت لها صلة قربى بأهلي ...
واشتقت أن أسمع القصة منها ، فسألتها عن الخبر ، فكان مما قالته :
(( كان المرحوم الحاج إبراهيم باراً بجيرانه خاصة وبالناس عامة ، وكان يقرض المحتاجين ويكتفي بتسجيل قرضه في سجل خاص ...
وكنت ألومه على ذلك فيقول : المال مال الله ، وقد كنت فقيراً فأغناني ، وكنتُ يتيماً فآواني فلن أقهر يتيماً ولن أنهر سائلاً ...
وكان يختم كلامه كل مرة بقوله : يا ليت لي في كل قبر ديناً ...
وشهدتُ محاكمة السيد ( ... ) وأصغيت إلى أقواله ، وكنت لا أشك بأن الله يسمع ويرى .
وحكم القاضي بالبراءة بعد أن أقسم المتهم اليمين ، فلما أقسم اليمين اقشعرَّ بدني ، فقد كنت مؤمنة بأنه كاذب وأنه اجترأ على كتاب الله عز وجل ...
وقلت أخاطب الله سبحانه وتعالى : إنك تعلم السر وأخفى ، وإنك علام الغيوب ، فإن كان السيد ( ... ) كاذباً في قسمه فاجعله عبرة للناس ... يا قوي يا جبَّار ...
وخرج المتهم من المحكمة وأنا أنظر إليه ، ولكنه سقط ميتاً على بعد خطوات من باب المحكمة ... )) .
لقد نجا السيد ( ... ) من حكم الأرض ، ولكنه لم ينج من حاكم الأرض والسموات ، ولم يكن الصراع يدور بينه وبين ورثة الحاج إبراهيم ، بل كان الصراع يدور بينه وبين جبار السموات والأرض...
وفي ليلة من ليالي الشتاء العاتية ، حين كان البرد قاسياً والمطر مدراراً وحين كان الناس يأوون إلى مضاجعهم لا يغادرونها ناعمين بالدفء والراحة .
في ذلك الوقت ، في ساعة متأخرة من الليل البهيم ، كان جرس دار الحاج إبراهيم يرنُّ قوياً متواصلاً ...
وكان على الباب إمرأة متشحَة بالسواد ، يرافقها طفل في السادسة من عمره ...
وفتحت زوج الحاج إبراهيم الباب لترى مَن الطارق .
فوجدت زوج السيد ( ... ) ومعها ولدها الوحيد ...
وقالت زوج السيد ( ... ) للسيدة زوج الحاج إبراهيم : (( لقد أنكر زوجي بأنه مدين للحاج إبراهيم ، ولكنني كنت أعرف بأنه كاذب ...
ورجوت أن يسدّد ما عليه من دين ، وألححت في رجائي وألحفت ، ولكنه ركب رأسه ، ومضى في غيه ...
لقد دفع زوجي ثمن كذبه غالياً ، وهذا هو المبلغ الذي كان مديناً به لزوجك )) .
وألقت بكيس فيه خمسمائة وألف من الدنانير ، ثم عادت مسرعة أدراجها إلى دارها ، ومن ورائها ابنها ، قبل أن تسمع كلمة من زوج الحاج إبراهيم ...
([1]) كمبيالة . قال الله تعالى في سورة البقرة : (( إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوه ... )) .
الروابط المفضلة