ثلاث قصص قصيرة
(1)
إنهم لا يحبون البحر
أيمن خالد دراوشة ـ الدوحة / قطر
*************************************
حطَّ هدوء المساء على العالم ، فنام الجميع ، وبقيت وحدي مستيقظاً أبحث عن معنىً لوجودي ..
زحف اللَّيل ، فحطَّتْ مرارة الموت على روحي ، ثمَّ تملَّكني ابتهاجٌ غريبٌ ، جعلني أقفز عن سريري صائحاً بكلامٍ غير مفهومٍ ، غير مُرتَّبٍ ، بعد ذلك شعرْت أنَّ الكآبة فارقتني فأمسكْتُ بالقلم وكتبْتُ ..
عن طفولةٍ مُتخطَّاةٍ ..
حِنَّة طفلةٌ في التَّاسعة من عمرها ، تقفز أمامي كفراشةٍ مُلوَّنةٍ، تحلم بأن تكون طبيبةً ، لتشفيَ النَّاس ..
قالت لي : - أنا لن أطلب المال منَ المرضى ..
ضحكتُ وقلتُ في نفسي : - إذاً مُوتي جوعاً ..
وأكملَتْ : - هل أشتري لك شيئاً ؟
تُرى من قال لها : إنِّي لا أملك فلساً واحداً ؟
قلتُ : - على أن تخرجي معي بعد غدٍ ..
على أمل أن أتدبَّر أمري في رحلةٍ حول المدينة ..
قالتْ : - مُوافقة ..
عيناها الزَّرقاوان تُشعرانني بمدى الفضاء الَّذي نعيش فيه ، كان فضائي بحجم علبة كبريتٍ ، سيئة الصُّنع ..
شربنا عصير التُّوت ورحلتْ إلى بيتها ..
راودني الأمل فجأةً ، يا لها من طفلةٍ رائعةٍ !
آهٍ .. من حطَّم رأسي ؟
آهٍ من رسم حياتي ؟ من سلب ابتسامتي ؟
منذ كم سنةٍ لم أشعر بقابلية العيش أو جدوى الاستمرار ..
حِنَّة سوف تكبر ، لنتركها تحلم ، سأعمل على مساعدتها ، تبَّاً! وهل أنا قادرٌ على مساعدة نفسي ؟!..
قررْتُ الانتحار فجأةً ، ألقيتُ بروحي في اليمِّ ، تلقَّفتني سمكةٌ مُلوَّنةٌ ، ولطمتني بذيلها الجميل ، ثمَّ قامت بحركاتٍ غريبةٍ ، وخُيِّل إليَّ أنَّها تنطق كالبشر ..
- مجنونٌ آخر ! لن أسمح لك بالموت في مملكتي ..
- كانت كبيرةً بحيث استطاعت سحبي نحو الشَّاطئ ، رغم مقاومتي الواهنة لها ..
كنت في حالةٍ من النَّشوة القُصوى،فجسدها أشعرني بالخدر اللَّذيذ كأنِّي أُلامس أُنثى ساحرةً ، أو عروس البحر.
ألقتْ بي على الشاطئ، وأرادتِ الرَّحيل ، فاستوقفتها قائلاً: - إلى أين ؟
قالت : -إلى مملكتي !
- بهذه السُّهولة ،ثمَّ من أعطاك الحقَّ لتعبثي في مصيري ؟ لولاك لكنت الآن في عالمٍ آخر أكثر جمالاً وطهراً ..
- أيُّها المخبول ! إنَّ الَّذي لا يعرف العيش في دنياه ، لن يعرف العيش في آخرته ..
- إذاً خُذيني إلى عالمك ، فهو حالةٌ وُسطى ..
- لن تستطيع العيش في عالمٍ غير عالمك ..
- أريد أن أرحل ..
- لماذا ؟
- كم هو قاسٍ ! .. كم هو فانتازيٌّ ! .. إنَّه جحيمٌ حقيقيٌّ ..
- ابحثْ لك عن امرأةٍ ، فما خُلقْن إلاَّ ليجعلنَ حياتكم أمراً ممكناً ..
وفي لمح البصر اختفت ..
في بيتي كلُّ شيءٍ يبعث على الضَّجر ، حيث الكُتبُ مكدَّسةٌ ، وأعقاب السَّجائر منتشرةٌ في كل ِّ مكانٍ ..
حِنَّة سافرتْ ، ممَّا زاد الأمر سوءاً ، وعاد الصَّمت من جديدٍ ..
آهٍ آلهة البحار ألا تنقذيني ؟
وظلمة اللَّيل ريحٌ تداعب هواجسي ، والأرق يجعل دنيايَ جحيماً لاهباً يحرقني ..
آلهة البحار ألا تطفئين ظمئي ؟
وأنا المحروم من كلِّ شيءٍ جميلٍ ومُقدَّسٍ ، اجعليها ترضى عنِّي ، فقد أصبحتِ الماء والهواء والضِّياء ..
قفزتْ إلى سريري ، مسحتْ بيدها البيضاء ، - وكنت ألاحظ البياض في جسدها الملوَّن لأوَّل مرَّةٍ - ، كيد طفلٍ على جبيني ، وقالتْ وهي تُوشك على الطَّيران :
- لن ينجحوا معك ؟ .. لن يفلحوا .. ستنتصر .. أتعلم لماذا ؟
- لأنَّهم لا يحبُّون البحر ..
رأيتها ترتفع عنِ الأرض .. فتعلَّقت بطرف ثوبها هائجاً:
- لا تتركيني لقمةً سائغةً في فمهم ..
ضحكتْ واستمرَّتْ في التحليق ، وأنا خلفها ، أرى عالماً جديداً طفوليَّ الملامح ..
************************************
(2)
العودة إلى البحر
************************************
تدنو الجدران منِّي ، تحاصرني، تسدُّ أفقي، ويضيق فضائي ، أكاد أختنق ، أتهاوى وسط الغرفة محطَّماً ومُشتَّتاً ، تقترب أيَّامي ..
أرحل مع الفراشات عبر البيَّارات ..
مضت الأيَّام ، أرتِّب حقائبي، أعبر الحدود ، أدخل جامعتي، أرتمي بين ذراعيها ، دافئةً كبلادي ، أنسى آلامي ، أبكي ، تربِّت على كتفي بحنانٍ وتقول : " يا طفلي " ..
تدنو الجدران أكثر فأكثر ، أهرب تتلقفني بين ذراعيها ، أطبع على شفتيها القرمزيَّتين قبلةً وأخرى ..
يدنو السَّقف ، يكاد يلامس جبهتي ، أنكمش ، أحاول ، أضرب ، لا أمل .. أسمع الأمواج تصفع الجدران بحركةٍ دائبةٍ لا تنتهي ..
الجميلات حولي ، والحبيبة غائبةٌ ، بعيدةٌ كوطني ..
أبحث عنها بين الوجوه ، ولا أراها ، رحلتْ ..
لِمَ تركتني أحلم ؟
أحلم بحلمٍ يدوم ، يدوم ، أصحو ..
أين أهرب ؟
تطبق الجدران عليَّ ، أتيبَّس كغصنٍ مقتولٍ ، أقطف الزَّيتون وأقطف اللَّوز والحنَّون ..
أنهض ... يصفعني السَّقف ، أسقط ، أسمع صوت البحر ، أشمُّ رائحتها ..أصفع نفسي كي أصحو ، فلا أصحو !!
تقترب الرَّائحة،يقترب السَّقف،تزحف الجدران، وكعقربٍ محاصرٍ أشعل النَّيران تلتهم أشيائي ..
يفيض البحر ، تخترق الأمواج الجدران،تحطِّمها،ألمح صورتها مبتسمةً،تلوِّح بيديها،أنهض، تبلعني الأمواج،بعد أعوامٍ أصحو على أناملها تداعب شعري تحت ظلال الزيتون ..
************************************
(3)
خواء
*************************************
لكم أُحبُّ التَّسكُّع في الشَّوارع ، والارتماء في أحضان المقاهي ، والبحث عن فتاتي ..
يومان متتاليان انتظرتها في المقهى على أملٍ عقيمٍ ، لم تأتِ، كففْت عن البحث ، فيبدو الأمر بلا جدوى ، كان من الغباء أن لا أتبعها ساعة رأيتها ، ولكنْ ما نفع النَّدم ..
رحلت إلى بيتي ، صعدتُ درجات السُّلَّم ، كم أنا مرهقٌ وتعبٌ ! .. فمنذ ليلتين لم أنم ، أيُّ امرأةٍ تستحقُّ ذلك ، ثمَّ إنِّي لا أعرف أين أجد تلك الفتاة اللَّعينة ؟
تُرى أين اختفت ؟
قد تكون إحدى ساكنات الحيِّ ، أو صديقةً لإحداهنَّ ،
لابدَّ أن أراها يوماً ، عندها لن أضيِّع الفرصة كأوَّل مرَّةٍ..
ما لي وهذا التفكير الأحمق ؟ .. فالحياة تعجُّ بالنِّساء ، وأيُّ واحدةٍ أُخرى تفي بالغرض ..
دلفتُ لبيتي ، وارتميت على الأريكة المهترئة مثلي ، انكمشت على نفسي ، ثمَّ استغرقت في النَّوم ...
***************************************
الروابط المفضلة