اسم الكتاب: التاريخ الأمريكي الحديث
المؤلف: الدكتور/أشرف محمد عبد الرحمن
الناشر: مكتبة الرشد للنشر والتوزيع - الرياض
يمثل التاريخ الأمريكي الحديث تاريخ العالم الجديد الذي ظهر في أعقاب حركة الكشوف الجغرافية الأوربية، وقد ظل التاريخ الأمريكي الحديث يعالج من خلال أحداث التاريخ الأوروبي الحديث، بسبب أن أوروبا كانت تشكل مركز الثقل السياسي الذي يوجه سياسة القارة الجديدة، وخاصة أن شعوب هذه القارة تعود في أصولها إلى أصول أوروبية، إلا أن الوضع السياسي في الأمريكتين قد تغير بعد قيام ثورات شعوبها ضد الاستعمار الأوروبي سواء الإنجليزي، أو الفرنسي، أو الأسباني، أو البرتغالي، واستطاعت شعوب القارة الجديدة الحصول على استقلالها السياسي، وبعد هذا الاستقلال برز تاريخ جديد للجمهوريات الأمريكية المستقلة كجزء قائم بذاته مستقل عن التاريخ الأوروبي .
وترجع أهمية التاريخ الأمريكي إلى أنه قام – ولا يزال – بدور بارز في تاريخ البشرية، على الرغم من أنه لا يملك تاريخاً طويلاً بالمقارنة بشعوب العالم القديم، سواء في أوروبا أو آسيا أو أفريقيا .
وتناول المؤلف في هذا الكتاب تاريخ الأمريكتين بدءاً من حركة الكشوف الجغرافية الأوروبية في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وانتهاء بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية، فتعرض للظروف التي أدت إلى انتشار المستعمرات الأوروبية في الأمريكتين، ثم تعرض للثورة الأمريكية وتطور العلاقات السياسية والاقتصادية بين المستعمرات والحكومة الإنجليزية حتى تطورت إلى حرب الاستقلال، وصدور الدستور الأمريكي عام 1789م، ثم تعرض المؤلف للحركات الثورية التحررية في أمريكا اللاتينية، وكيف ساندت الولايات المتحدة هذه الثورات حتى نجحت في الحصول على الاستقلال .
كما تعرض المؤلف للمشكلة الكبرى التي واجهت الولايات المتحدة بعد استقلالها؛ وهي الخلافات المتزايدة بين الشمال والجنوب حتى وقعت الحرب الأهلية، ومع أنها أرهقت البلاد إلا أن التقدم والتطور والتوسع كان طابع الفترة التالية للحرب، وهذا التوسع كان أولاً في القارتين الأمريكتين، ثم انتشر خارج الأمريكتين في الشرق الأقصى والأوسط. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت مزدهرة إلى حد كبير في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، إلا أنها لم تلبث أن واجهت أزمة اقتصادية كبرى عام 1929، وأخيراً تناول المؤلف دور الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الأولى، وكيف كانت قلوب الشعب الأمريكي مع الحلفاء (بريطانيا وفرنسا) ضد دول المحور (المانيا وإيطاليا).
مفهوم الأمة بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية
اعتبرت الدراسات الغربية أن الأمة تأتي حصيلة تفاعل نوعين من العوامل :
الأولى : موضوعية : مثل اللغة ، والتاريخ ، والجنس الواحد ، والإقليم الواحد ، والمصالح المشتركة ، والآمال الواحدة ، والعادات والتقاليد الواحدة ، والثقافة الواحدة إلخ...
الثانية : عوامل ذاتية : وعي الأفراد بأن لهم شخصية متميزة ومنفصلة تدفعهم إلى التعبير التنظيمي عن هذه الشخصية المتميزة (1) .
واعتبرت هذه الدارسات أن تفاعل النوعين من العوامل سيؤدي إلى تكوين أمة ذات أداء حضاري مشترك وذات وحدة سياسية ، وقد أعطى المفكرون الألمان عنصري اللغة والتاريخ الأهمية القصوى في تشكيل الأمة ، في حين أعطى المفكرون الفرنسيون العامل التراثي الدور الأول في تشكيل الأمة ، واعتبروا أن الدولة هي العنصر الأهم في تحقيق ذلك ، فوحدة الأمة وشخصيتها مستمدة من التنظيم السياسي لذلك فإن الدولة سابقة على الأمة وهي سبب وجودها والعكس غير صحيح ، لذلك هاجم المستشرق الفرنسي رينان عام 1882م عاملي اللغة والتاريخ في محاضرته الشهيرة عام : ما الأمة ؟ فأكد أن اللغة المشتركة مثلها مثل الأصل الواحد أو الدين أو المصالح كلها غير كافية بذاتها لتكوين أمة ، فهي عوامل مساعدة للمعيار الأهم وهو وحدة التراث ، فالتاريخ المشترك أهم عوامل التقريب بين الأفراد وتوليد الرغبة في الحياة المشتركة فتنشأ الأمة التي يكون لها الولاء الأول .
مفهوم الأمة في الحضارة الإسلامية :
ورد لفظ الأمة في عدد من آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة بعدة معان منها : الحين من الزمن ، والجيل ، والفرقة ، والملّة ، والدين إلخ...، لكنه ورد أيضاً بمعنى اجتماع المسلمين على صعيد واحد ملتقياً مع المعنى اللغوي للفظ الأمة والذي يعني جماعة يجمعهم أمر ما : إما دين واحد ، أو زمان واحد ، أو مكان واحد إلخ... (2)
لكن القرآن الكريم لم يعتبر المسلمين أمة واحدة لاجتماعهم على دين واحد فقط، بل لا بد لهم حتى يكونوا أمة إسلامية من أن يتصفوا بصفات أخرى يحققونها في وجودهم وكيانهم ، أبرزها :
1- الشهادة على الناس :
قال تعالى : {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} (البقرة،143) . تبين الآية السابقة أن الله -تعالى- جعل الأمة الإسلامية أمة وسطاً لعلّة وحكمة هي أن تكون قادرة على القيام بأمانة الشهادة على الناس ، والشهادة تقتضي العلم وتفتّح الوعي وتحقق الإدراك من الشاهد حتى يستطيع أن يقوم بأمانة الشهادة على المشهود عليه .
2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
قال تعالى : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (آل عمران،104) . وقال تعالى : {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران ،110) .
دعت الآية الأولى الأمة الإسلامية أن تكون أمة خير تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ثم بيّنت الآية الثانية أن خيرية الأمة الإسلامية جاءت نتيجة أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر ، وليس من شك في أن تحقيق الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني التطهير المستمر للمجتمع الإسلامي من أي ارتكاس ومن أية معوّقات داخلية ، ويعطيه أفقاً عالياً من الشفافية والحيوية .
3- الدين واحد والقيادة للأنبياء جميعاً :
تحدثت "سورة الأنبياء" عن معظم الأنبياء السابقين وهم : موسى وهارون وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذو الكفل وذو النون وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام جميعاً ، وذكرت طرفاً من سيرتهم ، وحياتهم ، ومواقفهم ، وعبادتهم ، ودعوتهم ، وصراعهم مع الباطل ، وصبرهم على أذى الكافرين ، وفضل الله عليهم ، ثم عقّبت بعد ذلك بآية قال تعالى فيها : {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (الأنبياء،192) .
كما تحدثت سورة أخرى هي "المؤمنون" عن عدد من الأنبياء هم : نوح وهود وموسى وهارون وعيسى عليهم السلام ثم قال الله تعالى بعد ذلك : {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} (المؤمنون ،51-52) .
أشارت الآيتان السابقتان بعد الحديث عن معظم الانبياء إلى أن أمة الانبياء جميعهم أمة واحدة ، ويمكن أن نفسر الأمة الواحدة بتفسيرين مرتبطين ببعضهما هما :
الأول : الدين الواحد والملة الواحدة لجميع الانبياء من لدن آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام وهو دين الإسلام الذي أوحاه الله إليهم ، وأشارت آيات أخرى إلى مثل هذا المعنى فصرّحت إلى انتماء بعض الأنبياء إلى دين الإسلام فطلب يوسف عليه السلام أن يتوفاه الله على الإسلام ، قال تعالى : {أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما والحقني بالصالحين} (يوسف،101) ، وقد وصى إبراهيم ويعقوب عليهما السلام أولادهما أن يموتوا على دين الإسلام ، فقال تعالى : {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (البقرة،132) .
الثاني : قيادة الأمة الإسلامية منوطة بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لذلك فإن الامة الإسلامية ليست أتباع محمد ( وحده بل تشمل أتباع الأنبياء السابقين جميعهم.
إذن نستطيع أن نتبين من خلال الكلام السابق أبعاداً أخرى لمفهوم الأمة في الحضارة الإسلامية يتجاوز الاجتماع الموحد والتجانس المشترك الذي قصدته الحضارة الغربية ، وأبرز هذه الأبعاد :
البعد الاجتماعي : يشتمل على واجبين :
الأول : نحو المجتمع الإسلامي : وذلك بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعني ديناميكية فعالة من أجل التوازن المستمر
الثاني : نحو المجتمعات الأخرى : وذلك بالقيام بواجب الشهادة عليها ونقلها إلى ما هو أفضل لها وأخير .
2- البعد الشرعي : يقوم على الالتزام بالشرع الذي جاء به الدين الإسلامي ، ولا شك أن هذا الالتزام يرفع الأمة باستمرار إلى أفق سامٍ من التكيفات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية والعقلية والجمالية .
3- البعد التاريخي : يقوم على الارتباط بالأمم السابقة وتشكيل أمة واحدة معها والاعتراف بحق القيادة لأنبيائهم .
ومما يؤكد وضوح الأبعاد السابقة عند علماء المسلمين ما أورده الشاطبي عن الجماعة في معرض حديثه عن الأمة الإسلامية والفرق التي افترقت إليها ، فقال إن الجماعة تعود إلى خمسة معان هي :
الأول : السواد الأعظم من أهل الإسلام .
الثاني : جماعة أئمة العلماء المجتهدين .
الثالث : الصحابة .
الرابع : جماعة أهل الإسلام إذا اجتمعوا على أمر فهو واجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم .
الخامس : ما اختاره الطبري الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه (3) .
وقد لخص بعض العلماء كلام الشاطبي فقالوا إن الجماعة ترجع في النهاية إلى معنيين :
الأول : الالتزام بالحق الموجود في الكتاب والسنة ، والخروج من الجماعة بهذا المعنى هو الابتداع والضلال .
الثاني : الالتزام بإمام جماعة المسلمين وطاعته ، والخروج عن الجماعة بهذا المعنى هو البغي والعدوان .
إذن يلتقي مفهوم الجماعة الذي وضحه الشاطبي مع مفهوم الأمة في بعدين :
الأول : بعد التزام الحق الموجود في الشريعة .
الثاني : بعد التزام القيادة المسلمة التي تتبع الرسول (
والآن : ما هي أبرز نتائج الأبعاد الخاصة لمفهوم الأمة في الحضارة الإسلامية على مسيرة التاريخ الإسلامي ؟
لقد أعطى البعد الشرعي الأمة الإسلامية انطلاقة هائلة عندما أقام بنيانها على التعارف بين الشعوب والقبائل انطلاقاً من قوله تعالى : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات،13) . وقوله ( في حجة الوداع : "يا أيها الناس إن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، الناس سواسية كأسنان المشط" ، وهذا ما جعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً فريداً في الماضي والحاضر عندما استوعب أجناساً وعروقاً وشعوباً وقبائل متعددة داخل كيانه ، ليس هذا فحسب بل ساهمت هذه الأجناس والعروق والشعوب والقبائل في إقامة الحضارة الإسلامية بما وهبها الله - تعالى - من إمكانيات ، وفي الدفاع عنها عندما تعرضت للتهديدات .
2- لقد حفظ البعد الشرعي الأمة الإسلامية بعيداً عن النزعات الاستعلائية وهي اللوثة التي أصابت الأمم في الحضارة الغربية والتي أدت إلى حربين عالميتين أهلكتا الحرث والنسل ، وأدت إلى نهب قارتي آسيا وأفريقيا لمدة قرنين وإفقارهما وتدميرهما ، وأدت إلى إبادة الهنود الحمر في أمريكا .
3- لقد أعطى البعد التاريخي الأمة الإسلامية سعة في الزمان وامتداداً في المكان ، وجعلها تتفاعل مع ما قبلها وتستوعبه دون إحساس بالغربة ، ولم يبق هذا الاتصال التاريخي شعوراً مبهماً بل تجسد في قواعد وأصول منها : القاعدة الأصولية التي تعتبر شرع من قبلنا شرع لنا ، وفي أحاديث الرسول ( التي قال في أحدها تعقيباً على صيام العاشر من محرّم عند بني إسرائيل شكراً لله على إنجاء موسى عليه السلام من فرعون ، فصام وأمر بصيامه وقال : "نحن أولى بموسى منكم" .
4- لقد أعطى البعد الاجتماعي الأمة الإسلامية اتساعاً في النطاق المدني فولّد الأوقاف التي أصبحت تمثل ربع ثروات العالم الإسلامي(4) ، وولّد عدم توزيع أرض السواد في العراق على الفاتحين بعد معركة القادسية من أجل الأجيال القادمة من المسلمين، فقد روى البيهقي عن أسلم قال : سمعت عمر بن الخطاب ( يقول : اجتمعوا لهذا المال فانظروا لمن ترونه ، ثم قال لهم : إني أمرتكم أن تجتمعوا لهذا المال فتنظروا لمن ترونه ، وإني قرأت آيات من كتاب الله ، سمعت الله يقول : {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم - الآية} (الحشر،8) والله ما هو لهؤلاء وحدهم . ثم تلا {والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم -الآية} (الحشر،9) والله ما هو لهؤلاء وحدهم . ثم تلا {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا في الإيمان - الآية} (الحشر،10) والله ما من أحد من المسلمين إلاّ وله حق في هذا المال أعطى أو منع حتى راعٍ بعدن ؛ وقد جاء في رواية أخرى قوله عن الآية السابقة: "هذه استوعبت الناس جميعاً ولم يبق أحد من المسلمين إلا وله في هذا المال حق إلا ما تملكون من رقيقكم، فإن أعش -إن شاء الله- لم يبق أحد من المسلمين إلا سيأتيه حقه حتى الراعي بسر وحمير يأتيه حقه ولم يعرق فيه جبينه"(5) .
يتضح من المقارنة السابقة بين مفهومي الأمة في الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية أن مفهوم الأمة في الحضارة الإسلامية أكثر غنى لأنه لا يقوم فقط على الاجتماع الموحد ، والعادات الواحدة ، والتقاليد الواحدة إلخ...، بل لا بد من تحقيق الأمة أموراً أخرى اجتماعية وشرعية فيجعلها أكثر إنسانية وأكثر انفتاحاً وأكثر شفافية وأكثر مدنية .
كيف نتخلص من اليأس?
أولاً: أن ندرك أن اليأس مذموم شرعاً وعقلاً: فالعمل والتفاؤل أمر لابد منه، ومهما ساء الواقع فالعمل لابد أن يترك أثره. واليأس لم يأت في نصوص الشرع إلا في مقام الذم والعيب, بل حين يصل الإنسان اليائس إلى يأسه من روح الله ورحمته فإن هذا من صفات الكافر كما قال الله عز وجل:} إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ(87){ [سورة يوسف] . حين ندرك أن اليأس مذموم، ولا يأتي إلا في مقام الذم والعيب؛ ندرك أن اليأس لا يدفع للعمل، بل يدفع للقعود والتواني والكسل، وسيدفعنا هذا إلى أن نتجاوز حالة اليأس التي نعيشها.
ثانياً: الاعتدال في النقد: إن تفكيرنا في أحيان كثيرة تفكير متطرف، فلا نجيد إلا الإعجاب المطلق المبالغ فيه، أو الذم والنقد المبالغ فيه. التطرف هنا أو هناك أمر مذموم، والنقد مطلوب حتى نصحح واقعنا كأفراد، ونصحح واقع مجتمعاتنا، فلابد من النقد حتى يؤدي دوره وثمرته، فإما أن ننتقد أنفسنا نحن، وإما أن ينتقدنا الآخرون، لكن النقد ينبغي أن يكون بموضوعية واتزان، فحينما نبالغ في النقد ويتجاوز النقد حده فإن هذا الأمر سيؤدي إلى اليأس.
جيئ برجل يشرب الخمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلد فسبه رجل، فقال صلى الله عليه وسلم :[لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ] رواه البخاري وأبوداود وأحمد. العقوبة التي يستحقها أخذها وهي الجلد فحينما يذمونه ويعيبونه ويلعنونه، فإن هذا سيجعل الشيطان يتسلط عليه أكثر. هذا على مستوى الأفراد.
أما على مستوى المجتمعات، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في ذلك فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ] رواه مسلم وأبوداود ومالك وأحمد. قال الإمام الخطابي رحمه الله: "معناه: لا يزال الرجل يعيب الناس، ويذكر مساوئهم، ويقول: فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم، أي أسوأ حالاً منهم؛ بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم والله أعلم".
ثالثاً: النظر في السنن الربانية: وهذا الأمر مهم، ومن ذلك:
أن تنظر أن هذا الدين جاء من عند الله، وهو الذي خلق الناس وهو أعلم بهم، بل هو تبارك وتعالى أعلم بالناس من أنفسهم:} أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(14) {[سورة الملك] . وقد شرع الله لهم هذا الدين، ولم يشرع للناس إلا ما يطيقونه, وهذا يقودنا إلى نتيجة بدهية، وهي: أن كل ما أمرنا الله به فهو مما نطيق فعله، وأن كل ما نهانا عنه فهو مما نطيق تركه والتخلي عنه، ولو عشنا فترة وألفنا واقعاً سيئاً في ذوات أنفسنا، كمنكر أو معصية داومنا عليها وتخيلنا أنها أصبحت جزءاً منا، فهذا من كيد الشيطان وتلبيسه، و إلا فما دام الله قد نهانا عنها وحرمها علينا؛ فنحن نطيق أن نتجنبها ابتداءً، ونطيق أن نتخلى عنها حينما نقع فيها، هذا على مستوى الأفراد.
وعلى مستوى المجتمعات: أخبر صلى الله عليه وسلم أن كل نبي كان يبعث إلى قومه خاصة أما هو صلى الله عليه وسلم فبعث إلى الثقلين الجن والإنس عامة فهو صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ورسالته خاتمة الرسالات و شريعته خاتمة الشرائع ، ومن منزلة هذه الأمة وكرامتها أن فيها طائفة منصورة إلى قيام الساعة. وجعل الله هذا الدين رسالة وشريعة لهذه الأمة الخاتمة إلى أن تقوم الساعة، وهذا يعني أن البشرية تستطيع أن تقيم حياتها على أساس هذا الدين في كل الظروف، وكل المتغيرات منذ أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة، وتستطيع أن تستوعب كل المتغيرات الجديدة وتقيم حياتها على هذا الدين وإلا لم يكن هذا الدين ديناً خاتماً، ولم تكن هذه الرسالة رسالة خاتمة. وهذا يعني أن المسلمين قادرون على أن يلتزموا بدينهم، وأن يقوموا بهذه الرسالة التي حملهم الله إياها وهم خير أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يقودون البشرية للهداية.
حينما نفكر في هذه القضية البدهية، فهذا يقودنا إلى هذه النتيجة: أن هذه الأمة بل إن البشرية كلها يمكن أن تستقيم على هذا الدين في ظل أي متغير، وأي عصر، وأي ظرف، وأنه لا يمكن أن يتعارض ذلك مع التقدم العلمي والتقني.
رابعاً: النظر في النصوص الشرعية التي تدل على تمكين الدين وانتصار الإسلام : ومنها:
ما جاء من وعد الله تعالى لعباده المؤمنين:} وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ(47){ [سورة الروم]. }إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7){ [سورة محمد]. }قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ(14){ [سورة التوبة]. }وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(55){ [سورة النور] .
هذا وعد من الله تعالى لابد أن يتحقق وأن يتم، والذين في قلوبهم مرض أو الذين يسيطر عليهم ضغط الواقع كثيرا ماتغيب عنهم هذه الحقائق في وعد الله . والله عز وجل قد وعد بني إسرائيل وحقق لهم ما وعد يقول عز وجل:} إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(4) { ثم قال تبارك وتعالى:} وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5)وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6){ [سورة القصص] . إذاً: الوعد الذي تحقق لبني إسرائيل في ظل ذلك الواقع المظلم البائس لابد أن يتحقق لهذه الأمة، وهذه الأمة أبر وأتقى وخير من بني إسرائيل.
وفي نصوص السنة نجد شواهد كثيرةً منها: قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ] رواه أحمد . وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:[لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ] وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ:" قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ" رواه أحمد. والنصوص التي يخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن النصر والتمكين نصوص كثيرة، لكن الشاهد أن إدراك هذه النصوص مما يزيل اليأس .
خامساً: إدراك أن استحكام اليأس طريق إلى الفرج: والفرج دائماً يأتي بعد شدة اليأس, وبعد أحلك المواقف والصعوبات.
وكل الحادثـات إذا تناهــت فمـوصولٌ بها الفرج القريب
سادساً: الأحداث السيئة في ظاهرها قد تكون خيراً: قد يكون حدث لا يرى منه الناس إلا الوجه السيئ فيصبح خيراً والناس لا يعلمون, يقول تعالى:} فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا(19){ [سورة النساء] و في قصة الإفك حين قُذفت عائشة رضي الله عنها بالزنا، فهل كان يدور في بالها حين سمعت هذه المقولة أن هذا الحدث سيكون خيراً لها؟ أو هل كان يدور في بال أحدٍ ممن عاش الحدث ذلك الوقت أن هذا خير لها؟ ثم نزل قول الله تعالى:} لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ(11){ [سورة النور] فبرأها الله من فوق سبع سماوات، وهي كانت تقول:" وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللَّهُ وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا وَلَأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ فِي أَمْرِي وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ ".
ومثل ذلك ما حصل لمريم حينما حملت بعيسى حتى قالت:}يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا(23) {[سورة مريم] فكان خيراً لها، فحملت بنبيٍّ من أولي العزم من الرسل.
إن الأحداث السيئة قد تكون خيراً والمتفائلون هم الذين يبحثون في الأحداث عن البشائر والمبشرات، وليسو هم أولئك الذين يسيطر عليهم اليأس والقنوط . وحينما نعيش روح التفاؤل، فإن الأحداث التي تواجهنا ينبغي أن نتعامل معها بتوازن, نعم نحن لا نعيش في أحلام، ولا نتغافل عن المخاطر لكن إذا كنا نريد الإصلاح والتغيير فلنبحث عن الجوانب والثغرات التي يمكن من خلالها أن نصلح، ونصل إلى الهدف المنشود. لم لا نبحث عن مواطن الثغرات التي يمكن أن نستثمرها؟ التغير الهائل الذي سيواجهنا اليوم لماذا لا نبحث عن كيفية استثماره في الإصلاح، وتغيير واقع المسلمين ؟ صحيح أنك ترى في مجمله شراً لا يؤذن بخير، وأن الأمر لو كان بأيدينا لما تمنينا أن يحصل, لكن ليست مسئوليتنا أن نبحث عن جوانب الخطورة، والذي ينبغي أن نفكر فيه أن نبحث عن نقاط نتسلل من خلالها، ونستثمر مثل هذه الأحداث لتكون منطلقاً لإصلاح أوضاعنا.
سابعاً: قراءة التاريخ:حين نقرأ التاريخ سنجد أن الفرج دائماً يأتي بعد الشدة والضيق، ولنضرب على ذلك نماذج:
في قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل: جاء موسى وقد تسلط فرعون على بني إسرائيل واستعبدهم واستذلهم، ثم حصل ما حصل، فأمره الله عز وجل أن يخرج مع بني إسرائيل، فخرجوا فلحقهم فرعون وقومه حتى كانوا أمام الخطر المحدق، البحر أمامهم وفرعون وراءهم:} فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61)قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ(62){ [سورة الشعراء]. في الماضي كان فرعون يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، ومع ذلك يمكن أن يَسْلَمَ بعضهم ويبقى، أما الآن فبنو إسرائيل محصورون، وليس أمامهم إلا الإبادة، فقد شعروا بأن حياتهم منتهية، فحصل لهم الفرج }فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ(63)وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ(64)وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ(65){ [سورة الشعراء].
في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نماذج عدة، ومنها:
حادثة الهجرة: فقد حاصر المشركون بيت النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنه لم ينم في بيته، وخرج وصاحبه إلى الغار واختفيا فيه وخرجا من طريق آخر، وكان المشركون قد استنفروا قواهم؛ ليظفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه حياً أو ميتاً, وبلغ الأمر غاية الشدة فما الذي حصل بعد ذلك؟ استقر المسلمون وأقاموا الدولة, وبنوا المسجد وصلوا مطمئنين.
جاءت غزوة الأحزاب بعد ما أصاب المسلمين ما أصابهم في غزوة أحد يريدون أن يقضوا على هذه الطائفة تماماً، وجاءت الآلاف من الأحزاب إلى المدينة وحاصرتها، اليهود من ورائهم والأحزاب من أمامهم، حتى صار الأمر كما قال الله عز وجل:} إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا(10)هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11){ [سورة الشعراء] حتى بلغ بهم الأمر كما قَالَ حُذَيْفَةُ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ] فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ ثُمَّ قَالَ:[ أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ] فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ ثُمَّ قَالَ:[ أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ] فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ فَقَالَ:[ قُمْ يَا حُذَيْفَةُ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ] فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ قَالَ:[ اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ] فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ] وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمَّامِ فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَفَرَغْتُ قُرِرْتُ فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحْتُ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ:[ قُمْ يَا نَوْمَانُ] رواه مسلم وأحمد . والموقف ليس حرباً متكافئة الطرفين، أو أنه ستغلب مجموعة وتنهزم الأخرى، إنما الموقف في غاية الخطر والخطر الداهم الذي يمكن أن يجتاح المدينة كلها ويبيدها تماماً، حتى نجم النفاق، وقالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، وبعد ذلك يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَجْلَى الْأَحْزَابَ عَنْهُ:[ الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ] رواه البخاري وأحمد .
جاء صلح الحديبية، واشترط المشركون شروطاً، وكان الذي سخطه المسلمون هو أن من جاء من المسلمين إليهم يعيدونه إلى المشركين, والمسألة ليست شرطاً فحسب إنما هو موقف يثير العواطف، يجيء أبو جندل يرسف في قيوده، فيقول أبوه: هذا أول ما أقاضيك عليه أن تعيده، فيسأله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعه فيقول: لا، فيقول أبو جندل: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني. وتزامن هذا الموقف مع الشرط الذي حتم عليهم ترك العمرة هذا العام، والعودة من العام المقبل، حتى فعل عمر رضي الله تعالى عنه ما ندم عليه، وبعد ذلك كله ما الذي حصل؟
كان هذا الصلح خيراً للمسلمين كان فتحاً حتى أنزل الله قوله:} إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(1){[سورة الفتح] والشرط الذي اشترطه المشركون كان فيه الخير، هرب أبو بصير وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورده، وهرب إليه ضعفاء المسلمين وهددوا قريش حتى جاءت قريش ترجوه أن يتنازل، ويقبل ضعاف المسلمين.
ومن نتائجه: أنه لما صالح المشركين وأمن شرهم؛ تفرغ المسلمون لليهود في خيبر وقضوا عليهم، وتفرغوا للمناطق الأخرى التي حول المدينة، وانتشرت دعوة الإسلام حتى صار عدد الذين دخلوا الإسلام من صلح الحديبية حتى فتح مكة أكثر من الذين دخلوا الإسلام منذ أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى صلح الحديبية, فانظر كيف كان الصلح، ثم حين نقضت قريش هذا الصلح كان سبباً في فتح مكة.
استقرت دولة الإسلام وحدثت أحداث عدة، ومن أبرزها حدثان:
غزو الصليبيين لبيت المقدس: يقول ابن كثير رحمه الله :"ثم دخلت سنة اثنين وتسعين وأربعمائة وفيها أخذت الفرنجة بيت المقدس، ولما كانت ضحى يوم الجمعة من سبع بقين من شعبان سنة اثنين وتسعين وأربعمائة حتى أخذت الفرنجة لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل,وقتلوا في وسطه أزيد من سبعين ألف قتيل من المسلمين ثم جاسوا خلال الديار" . واستولى الصليبيون على بيت المقدس وبقي في أيديهم تسعون سنة ثم بعد ذلك كتب الله النصر والتمكين للأمة، وأعيد البيت الشريف.
كارثة التتار: وأنقل لكم نماذج مما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله يقول:" وصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر أحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة، ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم في غاية الضعف، وبقية الجيش كلهم قد صرفوا من إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم بالأسواق وأبواب المساجد وأنشد الشعراء فيهم قصائد يرثون لهم، ويحزنزن على الإسلام وأهله...ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش وقين والوسخ وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم، فيهربون منهم إلى عالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، إنا لله وإنا أليه راجعون، وكذلك في المساجد والجوامع والرباع، ولم ينج منهم سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفة من التجار أخذوا عليهم أماناً بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم، وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة" .
هذه مقتطفات مما حكاه الحافظ ابن كثير حول ما أصاب المسلمين في غزو بغداد, هذه المآسي وقعت في بغداد حتى سيطر على المسلمين اليأس، وشعروا أن التتار قوة لا تهزم, ثم استفاقت الأمة بعد ذلك، وقاتلوا التتار، وهزموهم، وعادت الأمة إلى مجدها ونصرها.
إذاً: هذه النماذج للأمة التي استفاقت بعد الردة, الأمة التي استفاقت بعد غزو الصليبيين, الأمة التي استفاقت بعد مجازر التتار وغزوهم؛ قادرة بإذن الله أن تستفيق وأن تنتصر، وقراءة التاريخ تعطينا الدرس والعبرة، لكن اليائسين لا يعتبرون، والنصر لا يكتب لليائس، والتغيير لا يمكن أن يتم على أيدي اليائسين. اللهم إنا نعوذ بك من أن نيأس من روحك، ورحمتك إنك سميع مجيب.
من محاضرة"اليأس لا يصنع شيئاً" للشيخ/محمد الدويش
الروابط المفضلة