حارس الخلية

د. أحمد عدنان

أخصائي جراحة الجملة العصبية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ...لو تصفحنا البحوث الطبية المعاصرة في مجال علم الوراثة وعلم السرطان ، لوجدنا كثيراً ما تتحدث عن مادة(p53)، فمن هذهالبحوث ما يؤكد على أن عطب هذه الجزيئة يؤدي إلى السرطان ، ومنها ما يؤكد على ضرورة وجودها في الخلية لحمايتها من المرض أو الخلل أو التسرطن ، وفي بحوث أخرى وجد أنها لا تعمل في خلايا الأمراض الخبيثة ولو أنها أعيدت إلى هيئتها الأولى لعادت الخلايا سليمة معافاة .
وهكذا أقاموا الدنيا وما أقعدوها ببحوثهم في هذه المادة (p53) مؤكدين على دورها المهم في حياة الخلية ، فما هي مادة (p53) وما هي الوظائف الموكلة بها ؟في البداية أقول إنها جزيئات بروتينية لها وزن جزيئي يعادل 53 دالتن (وحدة قياس الوزن الجزيئي) وهي موجودة في كل خلايا الكائن الحي فوجودها مرتبط بحياة الخلية فلو اختفت هذه الجزيئات لاضطرب عمل الخلية ولظهر من أثر ذلك في الجسم سَقْمٌ واعتلال لما أصاب الخلية من ضرر ، وعندما تكون الخلية في حالة سوية فإن تركيز جزيئات (p53) يكون قليل جدا لا يكاد يدرك أو يقاس ، ولكن ما إن تصاب المادة الوراثية (DNA) بعطب أو ضرر حتى تنتفض هذه الجزيئات فتتكاثر ويزداد تركيزها بشكل كبير وتهبّ لإسعاف الخلية ، فأول ما تقوم به من واجبات ، هو إيقاف الخلية عن عملها ، وإذا كانت الخلية في حالة إنقسام فإنها تقوم بإيقاف هذا الإنقسام ذاك لأنه ليس من الحكمة أن تستمر الخلية بالعمل أو التكاثر وفي برنامجها الحيوي(DNA) خطأ جليٌّ أو مرض خطير ، ثم بعد ذلك تنادي جزيئات (p53) نظاماً خاصاً في الخلية يدعى نظام الإصلاح (System Repair) أن قد جاء دورك الآن .. فيقوم هذا النظام بتفحص المادة الوراثية بدقة متناهية حتى يقف على موطن الخلل فيها ؛ فيباشر في إصلاحه ، ويعمل على إعادة المادة الوراثية إلى حالتها الأولى ، وهذا ليس بالعمل السهل بل هو عمل شاق معَقَّد قد استشكل فهمه على جهابذة علماء الوراثة والخلية ، حيث أن المادة الوراثية (DNA) يبلغ طولها المتران ، لكنها محتوية في داخل النواة التي لا يتجاوز حجمها خمسة أجزاء من مليون جزء من المتر (إي 5 um) رغم ذلك فإن نظام الإصلاح يتفحص خيط الوراثة هذا (ذا المترين) من أقصاه إلى أقصاه فيتعرف على مكان الخلل ويشخصه ثم يقوم بإصلاحه ، وفي ذلك حكمة ربانية أخرى في إيقاف جزيئة (p53) الخلية المريضة عن عملها حتى تتاح الفرصة والوقت الكافي لنظام الإصلاح ليقوم بعمله في خيط الوراثة ، وما أن يتم إصلاح الخلل في المادة الوراثية حتى يخبر نظام الوراثة جزيئات (p53) أن قد تم ترميم واصلاح ما تلف من خيط الوراثة وإنه أصبح الآن بحالته الطبيعية ...وعند ذلك تسمح جزيئات (p53)للخلية باستئناف عملها من نشاطات حيوية أو إنقسام ، لكن في حالات معينة يكون التلف في المادة الوراثية عظيماً وواسعاً بحيث يعجز نظام الإصلاح عن تداركه فإن هذا النظام يخبر جزيئات (p53)عن جسامة التلف الذي أصاب مادة الوراثة وعن عجزه في إصلاحه عندئذ تقوم جزيئات (p53)بعمل غريب وذلك عندما تأمر نظام ثانٍ في الخلية يسمى نظام الموت (Death System) وظيفته قتل الخلية التي هو فيها فتتمزق إلى أشلاء ويموت معها الخلل الكبير في المادة الوراثية ، ولولا هذا النظام لاستمرت الخلية بالعمل وهي تحمل في أحشائها خللاً جسيماً يمكن أن يؤدي بها إلى السرطان عندما تتكاثر بشكل سريع ومفسد ، لهذا وجد أن كثيراً من الأورام ما كانت لتحدث لولا عجز جزيئات (p53)عن القيام بوظائفها ، والمحاولات الآن جارية لإقحام (p53)في الخلايا السرطانية ؛ علّها تتدارك الأمر فتعيدها إلى سابق عهدها.
ولقد تحقق بعض النجاح في هذه التجارب .أما كيف تقوم جزيئات (p53) بهذه الوضيفة من إيقاف عمل الخلية إلى إستنفار نظام الإصلاح أو نظام الموت ؟ وكيف تتخاطب هذه الجمادات بعضها بالبعض الآخر ؟ فهذا ما استشكل فهمه على العلماء ، وأبت الخلية أن تبوح بسرِّه إليهم ، لكنهم عندما علموا تلك الوظائف الجليلة التي تقوم بها مادة (p53) أطلقوا عليها إسم حارس الخلية !! فمن الذي هداها إلى وظائفها ؟ بل من الذي خلقها وخلق الخلية التي تحتويها فأودع فيها هذه الحكمة وهذا التدبير ؟ إنه رب كل شيء في سماء وأرض ، بديع كل شيء في سماء وأرض ، هادي كل شيء في سماء وأرض .

موضوع رائع

سبحان الله
مشكوره اختي

شكرا على المرور