*نسمـــات الحــج لغـيــر الحـجـــــاج*
وكذلك فقد شرع الله لمن لم يشهد الحج بعض الأمور التي تجعلنا نحيا في نفس جو الحجاج، ونتنسم معهم نسمات الحج، ليس ذلك عن طريق سماعهم أو متابعتهم إعلاميًّا، وإنما بالفعل أيضًا.. ولتتأمل معي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:
1- الصيام:
يجب أن يحرص كل مسلم على صيام التسع أيام الأول من ذي الحجة، وبخاصة يوم (عرفة)؛ لأن صيامه يكفر ذنوب سنتين كاملتين: سنة ماضية وسنة مستقبلة، كما روى مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه؛ ويجب أن نعلم أن الله يغفر ذنوب الحجاج جميعًا، ويعتق رقاب الكثيرين من خلقه في ذلك اليوم المبارك (يوم عرفة).. روى مسلم عن السيدة عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق فيـه عبدًا من النار من يوم عرفة)،فالحاج سيكفر الله له ذنوبه في عرفة، وغير الحجاج الصائمين في يوم “عرفة” سيغفر الله تعالى لهم ذنوبهم وهم في بلادهم على بعد أميال من مكة!! أي نعمة وأي فضل أعظم من ذلك؟؟

فالحفاظ على صلاة الجماعة بالنسبة للرجال، والصلاة على أول وقتها بالنسبة للنساء يجب أن يكون حال المسلم طوال العام، ولكن للشيطان أوقات يتغلب فيها على ابن آدم فيحرمه من الأجر والثواب العظيم، ومن فضل الله تعالى ورحمته أن جعل للمؤمنين مواسم يشتاق فيها المرء للعبادة، مثل “شهر رمضان”، “والعشر الأوائل من ذي الحجة”.. وهي فرص ثمينة ليست لتحصيل الثواب فحسب، وإنما للتدرب والتعود على هذه الفضائل طوال العام وطول العمر. وصلاة الفجر من أهم الصلوات التي يجب على المسلم أن يحافظ عليها في كل أيامه، وفي هذه الأيام المباركة على الخصوص، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن صلاة الجماعة بصفة عامة:
(من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة، كلما غدا أو راح)..
مـاذا نريد أكثر من ذلك؟.. إنها فرصة ذهبية، ألسنا نحسد الحجاج على وعد الله لهم بالجنة، في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)، وها نحن تتوفر لنا فرصة رائعة ونحن في بلادنا.. فلا يتعلل المرء بأنه لا يستطيع الحج في حين أنه في كل مرة يذهب فيها للمسجد أو يرجع منه يَعَدّ الله سبحانه له بيتًا في الجنة.

وهو من أعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه عز وجل، وقيام الليل في هذه الأيام له وضع خاص وأجر خاص.. وكثير من المفسرين يقولون في تفسير القسم في قول الله عز وجل: [والفجر . وليــالٍ عشر]أن المقصود بها الليالي العشر الأول من ذي الحجة.. قم صل قدر ما استطعت، واسأل الله من فضله ما أردت، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له)ماذا يريد العبد أكثر من ذلك؟؟!

أي فضل وأي خير هذا؟! انظر كم باستطاعتك أن (تحجز) من البيوت، وتدبر معي: إذا وعدك أحد الملوك بأنه سيعطيك بيتًا واسعًا وجميلاً في مكان جميل بشرط أن تفرِّغ له نصف ساعة يوميًّا من وقتك، فهل ستلبي طلبه أم تتقاعس عنه؟! فما بالك ورب العزة سبحانه وتعالى يعدك ببيت في الجنة التي وصفها فقال: [عرضها السماوات والأرض]!!! لذلك فإنني أقول إن المسألة مسألة إيمان ويقين في وعد الله تبارك وتعالى، فلا يفرط إنسان عاقل في هذه الفرص.
وغير ذلك من السنن والنوافل: صلاة الضحى، سنة الوضوء، صلاة الاستخارة، وغيرها…
لتجعل من هذه العشر هجرة كاملة لله عز وجل.

والذكر في هذه الأيام له وضع خاص جدًّا، يقول الله سبحانه وتعالى: [واذكروا الله في أيام معدودات] أي هذه العشر؛ وقال ابن عباس في قوله تعالى: [ويذكروا اسم الله في أيام معلومات] هي الأيام العشر؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: (الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات).
وكل أنواع الذكر محمودة ومطلوبة، لكن في هذه الأيام يكون هناك خصوصية لبعض الأذكار، ومنها: التهليل، والتكبير، والتحميد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما رواه أحمد عن ابن عمر رضي: (ما من أيام أعظم عند الله تعالى ولا أحب إلى من العمل فيهن من هذه الأيام العشر.. فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)، وكذلك فإن للاستغفار في هذه الأيام حضور ومكانة كبيرة؛ إذ تشعر أن الجو العام في هذه الأيام هو جو الرحمة والمغفرة والتوبة، فهذه الأيام فرصة للاستغفار والتوبة إلى الله تعالى بصيغ الاستغفار المتعددة.. وتذكر دائمًا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله).


نعمة كبيرة جدًّا أن يمن الله علينا بحب قراءة كلامه سبحانه وتعالى، وفي قراءة القرآن فضل وخير كثير.. اقرأ القرآن ولك بكل حرفٍ فيه حسنة، والحسنة بعشر أمثالها؛ بل من الممكن أن تختم القرآن كله في هذه العشر.. نعم صعب، لكن ليس مستحيلاً، اعتبر نفسك ستحج، كنت ستقتطع أسبوعين للحج، الآن اجعل ساعتين فقط يوميًّا لقراءة كتاب الله وبذلك تتمكن من ختم القرآن كله خلال هذه الأيام بإذن الله.

لذلك فقد تكون هذه الأيام العشر فرصة لغير الحاج ليجتهد في توحيد المسلمين في محيطه، وقد يساعدك في هذا الأمر أن تسعى لتحقيق هذه الأمور:
أولاً، بر الوالدين..فبرهما وطاعتهما مقدمة على كل شيء ما داما لم يأمرا بمعصية؛ وتذكر أنك تريد الحج حتى تدخل الجنة، والوالدان يمكنهما أن يدخلاك الجنة.
ثالثًا، الأصحاب والجيران، ودوائر المجتمع المحيطة بك، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عاد مريضًا، أو زار أخًا له في الله ناداه مناد: أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً).
رابعًا: إصلاح ذات البين..ابحث فيمن حولك عمن بينك وبينه خلاف أو قطيعة، واجتهد أن تصلح ما بينك وبينه، بل واجتهد أن تصلح ما بين المسلمين من حولك أيضًا، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لك عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا).

الإكثار من الصدقة في هذه الأيام المباركة له فضله وأجره، قال تعالى:
[وما تنفقوا من خيرٍ فلأنفُسِكُم ومـا تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خيرٍ يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون].
فهذه الأيام أيام سعادة، وفقراء المسلمين في أمس الحاجة إلى السعادة في هذه الأيام.. فأكثر من النفقة واحتسب أجرك عند الله، ولا شك أن الأجر مضاعف في هذه الأيام.. وتذكر أن الحاج ينفق من ماله الشيء الكثير في الحج، ولا بد على من لم يحج ويريد أن يفوز بالأجر والثواب أن يتنافس معه قدر استطاعته، كلٌ بمقدرته (اتقوا النار ولو بشق تمرة).

تعالوا نعش مع الحجاج معيشتهم في هذه الأيام.. تعالوا نأخذ من الحج درسًا عمليًّا نطبقه في حياتنا في بيوتنا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يستشعر المسلمون حياة الحجيج حتى لو لم يذهبوا إلى مكة؛ ولذلك قال فيما ترويه أم سلمة رضي الله عنها: (إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئًا)، ليس مهمًّا أن نلبس أفخم الثياب، أو نأكل أفضل الأكل.. لكن المهم أن نغتنم كل لحظة وكل دقيقة من هذه الأيام في طاعة الله سبحانه وتعالى.

الحديث الثانيرواه ابن ماجه أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوه: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: (سنة أبيكم إبراهيم)، قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: (بكل شعرة حسنة)، قالوا: فالصوف يا رسول الله؟ قال: (بكل شعرة من الصوف حسنة).

كلمتي للمخلصين من أبناء هذه الأمة الذين لم يكتب لهم الحج بعد: لا تحزن يا أخي، فقد جعل الله لك عوضًا عن ذلك؛ لا تحزن إن لم تكن مستطيعًا، فالله لا يكلف نفسًا إلا وسعها؛ لا تحزن فقد يكتب الله لك أجر الحجاج.. وزيادة، بنيتك الصادقة وشوقك الحقيقي ولهفتك غير المصطنعة.
ولكن إلى أن يكتب الله عز وجل لك حجًّا لا تضيع وقتًا.. قد فتح الله عليك أبواب الخير على مصراعيها، فأعمال الخير لا تنتهي، وأبواب الجنة لا تغلق في وجه طالبيها، ورحمة الله واسعة.
ليُقِم كل منا جبلاً لعرفات في قلبه، وليدعُ الله وقتما شاء.. ليرجم كل منا الشيطان في كل لحظة من لحظات حياته.. ليتخفف كل منا من دنياه، فما بقي من الدنيا أقل بكثير مما ذهب.. ليصلح كل منا ذات بينه وليسامح إخوانه، ويحب الخير لكل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
أسأل الله تبارك وتعالى حجًّا مبرورًا لكل من كتب له الحج، وعملاً صالحًا مقبولاً لمن لم ييسر له الحج.

انتقاء وترتيب الأخت الفاضلة / .. الغدير ..