من الناس مَن إذا ذكروا رقت القلوب لذكرهم
وارتاحت النفوس لسيرتهم .
قوم عاشوا حياتهم لا يألون جهدا ً في الذب عن الدين والرسالة الخالدة .
قوم أخلصوا نيتهم لله .. فخلدهم الدهر .. ونهلت الأمم من علومهم فكان لهم أجرا ً
إلى يوم الدين .
بقيت آثارهم حية تتكلم , وبقيت محبتهم في قلوب محبيهم ..
وكم من اناس قدموا أعظم مما قدموه إلا أن نواياهم كانت للسمعة والشهرة ..
فذهبوا وذهب معهم ما كتبوه إلى مزابل التاريخ .
:::::::::::
في هذه السلسلة أحببت أن أتناول سيرة بسيطة لأئمة أحببناهم في الله
إنهم أئمة المذاهب الأربعة رضي الله عنهم .
وصلوا ليلهم بنهارهم ليقدموا لنا الفقه سهلا ً ميسرا .
نذكرهم ونتذكر مآثرهم علّ قلوبنا التي قست ترق لذكرهم .. وتتعلم من نهجهم
البذل والعطاء .
::::::::::::::::::::::
أولهم
الإمام أبو حنيفة النعمان
ولد أبو حنيفة النعمان بن ثابت بالأنبار بالكوفة . في خلافة عبد الملك بن مروان .
أصله فارسي . فهو مولى . إلا أنه كان عربي النشأة والمولد .
هو تابعي . فقد عاصر صغار الصحابة . ورأى أنس بن مالك لما قدم الكوفة .
روى عن عطاء بن أبي رباح وهو اكبر شيوخه . وعن الشعبي . وكثير غيرهم .
لقي أبوه ثابت علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
أهدى والده عليا يوم عيد النيروز الفالوذج وهو نوع من الحلوى . فأعجبه فقال
مازحا ً : نورزونا كل يوم .
كان ابو حنيفة من أحسن الناس صورة , وأبلغهم نطقا ً , وأحلاهم نغمة , وأبينهم لما يريد .
كان هيوبا , طويل الصمت , كثير العقل .
قال عنه ابن المبارك : كان أبو حنيفة أفقه الناس .
قال عنه علي بن عاصم :
لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم .
كان أبو حنيفة أول من تحدث بالفقه ودونه كعلم , وجعله أبوابا ً .
ثم تابعه الإمام مالك في الموطأ
ولذلك يقول عنه الشافعي :
الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة .
وقال عنه حفص بن غياث :
كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر , لا يعيبه إلا جاهل .
كان كثير المواساة لإخوانه .
يلبس فاخر الملابس . كثير التعطر . يعرف ريح الطيب منه قبل أن يرى .
كان غنيا يعمل في الخز . وإذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها .
كثرت صفاته الحسنة فكثر محبوه وكثر حساده .فصغروا من شأنه , وشوهوا
سمعته . وألفوا المؤلفات في ذمه .
ولكنه لم يكن يعبأ بهم :
كان يقول :
عفا الله عمن قال فينا مكروها .. ورحم الله من قال فينا جميلا ً .
قال الخريبي : ما يقع في أبي حنيفة إلا حاسد أو جاهل .
من أقواله :
ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس . وما جاء عن
الصحابة اخترنا . وما كان من غير ذلك فنحن رجال وهم رجال .
كان رحمه الله شديد التقوى وما قبل في حياته جائزة ولا هدية .
وقعت إلى الكوفة أغنام من الغارة , واختلطت بغنم اهل الكوفة :
فسأل : كم تعيش الغنم ؟ فقالوا سبع سنين .
فترك أكل لحم الغنم سبع سنين . !!
وكان لا يجلس في ظل شجرة غريمه . أو ظل شجرة أحد أقرضه قرضا ً . ويقول :
كل قرض جر منفعة فهو ربا .
من قصصه :
أنه كان له جار فاسق , سكير , عوّاد ( أي يضرب على العود )
وفي كل ليلة عندما تأخذ الخمرة برأسه يبدأ بالغناء ويضرب على العود ويقول :
أضاعوني , وأي فتى أضاعوا :::::::::: ليوم كريهة وسداد ثغر
فكان يتأذى منه ولا يقول له شيئا .
في أحد الأيام افتقد صوته . فسأل عنه . فقالوا : أخذه رجال الأمير .
فقال لمن حوله : قوموا بنا إليه .
فذهب إلى صاحب الشرطة وكان تلميذا له . فركض إليه وقال : يا شيخي لو أرسلت َ إلي !
فكلمه في أمر جاره .
فأخلى سبيله ومن معه جميعهم . وقال لهم : أخليت سبيلكم حرمة لشيخي أبي حنيفة .
قال أبو حنيفة : هل أضعناك يا فتى ؟
قال : لا ياسيدي ومولاي ! لا تراني بعد اليوم أفعل شيئا تتأذى به .
ثم لا زمه حتى صار من فقهاء الكوفة .
من أكبر مآثره أنه ترفع عن مناصب الدولة .
ضربه ابن هبيرة على القضاء . فأبى أن يكون قاضيا .
وعن مغيث بن بديل قال :
دعا أبو جعفر المنصور أبا حنيفة للقضاء فامتنع .
(( قلت : تعلل بأنه مولى , فالمولى لا يلي
القضاء ))
فقال المنصور : أترغب عما نحن فيه ؟ فقال : لا
أصلح ! قال : كذبت .
قال : قد حكم أمير المؤمنين علي أني لا أصلح .
فإن كنت كاذبا ً فلا أصلح . وإن
كنت صادقا ً فقد أخبرتكم أني لا أصلح .
فأمر بحبسه وضربه .
وضيق عليه في الطعام والشراب
وامر بضربه كل يوم عشرة أسواط . لمدة عشرة أيام .
فدعا وبكى .
ولبث خمسة أيام ثم توفي .
توفي شهيدا ً سنة خمسين ومئة . وله سبعون
سنة .
ودفن في بغداد .
ينتشر المذهب الحنفي في الهند والسند , والروم .
والترك , وبلاد ماوراء النهر .
رحمه الله رحمة واسعة .
الروابط المفضلة