(3)
مضى معظم الليل وبيسان تغرس رأسها في وسادتها،
تفكر و دموعها تنساب بهدوء بالغ ...
تكوّرت على نفسها ...والتفت ببطانيتها معانقة ذاتها ..
كانت كالخائف الذي ينشد شيئا من الأمان !
لقد كانت هذه المشاعر معرفة لديها ... فأمها مربية رائعة
لم تكن تتركها أو إخوتها لخوض غمار مرحلة جديدة دون التقديم لها
وتعريفها ...وإرشادهم لما يجب فعله ...
حينما اقتربت بيسان من عمر المراهقة
كانت تحدثها أمها كثيرا عن الإختلاف الذي سيطرأ قريبا على جسدها من ناحية
وعلى عواطفها ...في أعماق نفسها...
حدثتها مرّة ، بأن من أهم ميزات هذه المرحلة ، أن يبدأ الشاب والفتاة في التفكير بعالم
الحب والارتباط ... يومها قالت أمها بأن هذا العالم بحد ذاته عالم جميل ينشده الجميع
ولكن أكدت عليها بأن له وقت لا يمكن تجاوزه!!
لذلك ينبغي على المراهق أن يضبط مشاعره تلك ، وأن يوقف جموح تفكيره في هذه الأمور
لأن ذلك قد يحول بينه وبين التقدم والنجاح ...
وأن يحول تفكيره في شأن الحب والجنس الآخر ، لينهج منهجا إيجابيا بناء
فيبدأ الشاب ببناء نفسه ليتأهل لعالم الارتباط
من خلال الجد والاجتهاد في الدراسة ، التي ستوصله حتما لوظيفة مرموقة
يتمكن من خلالها جمع متطلبات الارتباط...
وكذلك الفتاة لا بد أن تحوّل رغبتها المتوقدة للحصول على حب وعناية الطرف الآخر
فيما يؤهلها للارتباط ... كأن تعنى بتثقيف نفسها اجتماعيا وتربويا ودينيا
والاجتهاد دراسيا ، بل حتى بتقوية مهاراتها في إدارة البيت، وفنون الطبخ وغيرها
لتكون أما صالحة مثقفة، قادرة على متطلبات الارتباط بالآخر
وبناء بيت مسلم ناجح ...
ما زالت تذكر ذلك التنبيه من والدتها ، بأن العواطف الجياشة التي تحملها الفتاة في هذا العمر
قد تدفعها للاعجاب بأي شاب ترى فيه صورة فارس الأحلام الذي تنشده
وقد يخيل لها الشيطان صورا جميلة وهميّة لأي شاب تراه فيضخم في عينيها صفاته وإيجابياته
ويخفي بالمقابل سلبياته !!
وخبرتها القليلة في الحياة لن تخدمها في هذه المرحلة بالحكم على الأشخاص والظروف ،
لذلك طلبت منها حينها أن تلجأ لها في أي شيء يشكل عليها
لترشدها وتوجهها للصواب ...
أكدت عليها بأن لا تتردد خجلا منها .. وطمـأنت قلبها بأنها تتفهم جيدا مشاعر المراهقة
ولن تقسو عليها مهما حدث ...
كم أكدت عليها أمها عبر السنوات السابقة ، أن غضّ البصر هو المنجاة للمراهق والبالغ
ووضعتها أمام واقع لا يمكن تجاوزه ، بأن المراهق صغير العمر غير مؤهل للارتباط الشرعي
لذلك يجب أن يتقي أسباب وقوعه في الإعجاب والحب !! حتى لا يتورط به سنوات
لأن ذلك لن يجرّ على المراهق سوى انشغال عقله فيما لا يجدي
ولن يجني من ذلك سوى ضياع الوقت والمجهود فيما لا ينفع
والمصيبة الكبرى أن داء الحب والعشق يفتك بالإيمان فتكا ... فيصبح القلب هشّا ضعيفا
وقد تخور قوى القلب في مواجهة الشيطان ... فينهزم ... ويضيع الإيمان هباء ...
وقد يوقع صاحبه في معاص وآثام ... من تكرار نظر ... والنظر سهم من الشيطان
قد يوقع في معاص أعظم من محاولة احتكاك ... أو كلام ... أو أكثر من ذلك ...
ومهما ظن المراهق نفسه قويا أمام كيد الشيطان ... فإن القلب ضعيف متقلب ،
وما من مخلوق يأمن على نفسه الفتنة ...
كانت بيسان وسط الظلام تذكر كل ذلك ...ودموعها تنساب حرّى ...
"لا أصدق بأني وقعت في كل ذلك!" ....."حرصت سنوات على ما أوصتني به أمي ...
كنت قوية في وجه أي فتنة تعترضني...لم أبالي بأي شاب رأيته ...
ولكن لماذا حصل معي هذا عندما رأيت....ليث....!!!" تذكرت صورة ليث
شعرت بضيق في نفسها ... جلست ، وعيونها على وردتها الكرستالية المتلألئة وسط الظلام
"آآه يا وردتي ....آآه يا أنا!!" زفرتها بحرارة ...
منذ زمن طويل كان والديها يرددا على مسامعها " أنت كالوردة العبقة، جميلة جذابة
كل يرغب باستنشاق أريجك، ولكن الوردة إن امتدت لها أيدي العابثين ...أصبحت بالية ، ذابلة "
وكانا يسألها : كيف تبقى الوردة على رونقها؟
فتجيبهم : حينما تبقى على شجرتها ،عالية بعيدة عن أيدي العابثين !
فيبتسم والداها ويقولا ... الشجرة هي أخلاقك يا حبيبتي وعفتك وطهرك ،ابقي عليها عالية بحجابك
ودينك ...ولن تذبلي أبدا ...
وفي يوم ... قال والدها : البنت مثل الزجاج ...بل يجب أن تكون مثل الزجاج ،بشفافيته
ولكن عليها الحرص ، فأي خدش في خلُقها ... كالخدش في الزجاج ...
لا يمكن أن يزول ، بل سيبقى مدى الحياة يشوه جمالها ... وشفافيتها .
كانت بيسان تفهم المغزى جيدا ... كانت تعيشه بكل ذرة فيها ...
لقد رأت نفسها وردة جميلة ، ولكنها شفافة كالزجاج ...
هذا هو سرّ وردتها الكرستالية !!!
مر الليل بطيئا ثقيلا على نفس بيسان ... وقبيل الفجر بقليل ...خفق قلبها بشدة
في هذه اللحظات من كل ليلة كانت بيسان تنتظر
ذلك الأذان العذب بشوق بالغ ليخشع قلبها ، ولكنها الآن خائفة من ذلك الصوت
ماذا تفعل " هل أغلق أذني؟ " تساءلت بيسان في أعماقها ...
لقد علمت بيسان أن قلبها بدأ يضعف ،
سماعها صوت ليث العذب سيزيد المشكلة لديها !!
وفجأة يعلو تكبير الأذان ...بنفس صوته المخملي
وتنفجر بيسان باكية لأن قلبها خفق بشدة لصوته ....
لقد علمت الآن يقينا بأن قلبها قد أصيب بسهم العشق ...
أجهشت بالبكاء ...
بكت ...
بكت كثيرا...
قامت للصلاة ، ثم أسرعت مذعور لفراشها مع إقامة الصلاة في المسجد،
غمرت رأسها داخل الفراش ، وضعت وسادتها فوق رأسها ،تحاول إغلاق أذنيها،
كبّر ليث ... فارتعش قلبها ...ابتدأ بالفاتحة ...وما زال صوته يصل أذنيها ...
رفعت الوسادة ونامت عليها مستسلمة ... وقد أجهشت بالبكاء من جديد ...
**************************
مضى يومان وبيسان تعيش بألم ...عذاب في أعماقها ...شد وجذب
حينا يزين لها الشيطان حب ليث ويذكرها بوجهه الوضاء ،صوته العذب،
نشاطه الدعوي ، مكانته المرموقه مستقبلا كطبيب...
وحينا تنهار روحها ألما على قلبها الذي كان يعيش صفاء وشفافية ..
منذ يومين لم يصفُ قلبها ولو لدقيقتين تذكر الله بخشوع كالسابق ...
حتى أنها لم تتمكن من استذكار وردها اليومي من القرآن ...
"إلهي عفوك! كنت بغنىً عن كل هذا ...كنت سعيدة بمعيتك ربي!" اشتكت لربها ما تجد ...
وأمها كانت قلقة عن بعد ...فحبيبتها ووحيدتها ليست على ما يرام ... تهم بسؤالها ، ثم تتراجع منتظرة
من بيسان أن تلجأ لها باختيارها....
****************************
في عصر هذا اليوم ... كانت بيسان تدخل غرفتها ...رمقت الشباك فرأت الرجال يخرجون من المسجد
شيء ما دفعها لإطالة النظر ...
كانت تبحث بلا وعي عن وجهه بين الوجوه ...فعلا لقد رأته ... هاهو يمشي مع براء
اقشعر جسدها وأحست ببرودة في أطرافها ... تسمّرت عيونها عليه ، لم تستطع إبعاد نظرها ...
استغرق الأمر دقيقة ،،،عادت لوعيها ... فأبعدت نظرها سريعا ...
ولكنها شعرت بأن كارثة قد وقعت ...آبت لنفسها ...تحسست قلبها ... فانهارت على أرض الغرفة تبكي
"ماالذي فعلته !!" "كيف أنظر له هكذا " "آآه يا نفس ما أكفرك!!"
علا صوت بكائها .... لقد تهاوت مـُثـُلها في دقيقة شعرت بأنها خانت العهد مع ربها ...مع والديها ...
لقد خدشت نفسها الشفافة ،
أسرعت لوردتها الكرستالية ، قذفتها بقوة نحو الجدار ،
انكسرت وتفرقت على الأرض قطعا ... ونحيب بيسان يعلو ويعلو
سمعت أمها الصوت فذعرت ، ركضت لغرفة ابنتها ولسانها يلهج "سترك يا رب" ...
فتحت الباب سريعا ،
وإذ ببيسان تجلس أرضا مرتكزة على الجدار ، تغرس وجهها بين كفيها وتبكي بحرارة
أم البراء: بيسان ..هل أصابك أي مكروه ...
بيسان: لا ...لا تقلقي أمي
أم البراء: تكلمي ماذا هناك؟
بيسان: لا تقلقي أمي ...
أم البراء شعرت بقلق وهم كبير ...وأدركت أن ما أبكى بيسان أمر جلل ... ولكنها تركت بيسان
لأنها علمت بأن ابنتها ليست مستعدة للكلام في هذه الدقائق ...
اسرعت بيسان لفراشها ... تحتاج أن تنام ...انها مرهقة جدا ...
وإلى لقاء قريب
الروابط المفضلة