الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين أما بعد
•• الجوع ••
هل هو ذلك الألم المعوي الذي يصيبنا فيما لو لم نأكل؟
أم هو تلك المعاناة الجسدية لمن يعاني من سوء التغذية؟
•• الجواب ••
نعم، لكن الجوع أشياء أخرى أيضًا.
فالجوع يعني الألم، ألم الخيارات المستحيلة، والجوع يعني الحزن، والجوع يعني الذل، والجوع يعني الخوف،
ومن ثَمَّ صارت أبرز أبعاد الجوع هي الألم والحزن، والذل والخوف.
الجوع بالنسبة لنا مجرد أرقام من الناس لا يحصلون على غذاء كافٍ،
ويكون الحل بالنسبة لنا أرقامًا أيضًا من الأطنان ومن الدولارات من المساعدات الاقتصادية.
ولاكن هل الجوع حقا كما فهمنا أم يوجد له تفسير ومعنى آخر
إذا فهمنا الجوع بماهو نرى أنه
هو أناس حقيقيون يعيشون أشد المشاعر الإنسانية إيلامًا، وحينئذ نستطيع أن نرى جذور الجوع.
الإنسان الجائع هو الإنسان الذي حرم القدرة على حماية نفسه ومن يحب،
تلك هي الخطوة الأولى نحو فَهْم حقيقي لمشكلة الجوع وظاهرة المجاعة،
وأسباب ذلك ليست هي القلة؛ لأن العالم مليء بالطعام.
••أسباب الجوع والمجاعات••
الكثير منا يضع السبب الأول على الكوارث الطبيعية،
والجزء الآخر يرى السبب فى ظلم الإنسان لأخيه الإنسان،
وسخب الإنسان وجشعه، وتبذير الموارد الاقتصادية،
والإسراف في استخدامها، وإهدار الطاقات،
كل ذلك وغيره من أسباب تفشِّي الجوع،
وانتشار المجاعة في كثير من بقاع العالم.
ومن هنا يتضح لنا أن المجاعات، كوارث اجتماعية،
وليست كوارث طبيعية، إنها نتيجة لأعمال الإنسان.
••النظرة إلى الجوع في التاريخ الإسلامي ••
كان عمر بن عبدالعزيز خامس الخلفاء الراشدين يأمر عماله بشراء القمح من بيت مال المسلمين
لا ليعطوه للجياع من بني الإنسان لأن هذا أمر مفروغ منه ,
ولكن لينثروه على قمم الجبال حتى يأكل الطير من خير المسلمين ,
ولا يزال صدى كلمته الخالده " انثروا القمح على رؤوس الجبال لكي لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين "
شاهداً على مدى تراجع القيم الإنسانية في العصر الحديث الذي يحلو للبعض وصفه بعصر حقوق الإنسان ,
في الوقت الذي مات فيه مئات الآلاف جوعاً والملايين ينتظرهم نفس المصير ولا يتم التحرك لإنقاذهم .
ومن العلماء من ينظر إلى الجوع ويفسره لنا بأنه "جند الله "
فجنود الله لا عد لها ولا حصر ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾ المدثر 31
﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ الفتح 7
ومن تلك الجنود (الجوع) يسلطه الله تعالى على من يشاء من عباده إما:
1- عذابا كما في قوله تعالى ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل 112].
2- وإما ابتلاء وامتحانا:
قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 130].
وقال تعالى ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157].
وقال تعالى ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) ﴾. يوسف
•• الجوع خزانة عظيمة لفوائد الآخرة ••
ومن العلماء والفقهاء من رأى أنّ في الجوع فوائد جمة ومنها :
أولاً: صفاء القلب وإيقاد القريحة وإنفاذ البصيرة؛ فإن الشبع يورث البلادة، ويعمي القلب.
ثانيًا: رقة القلب وصفاؤه، الذي به يتهيأ لإدراك لذة المثابرة والتأثر بالذكر.
ثالثًا: الانكسار والذل وزوال البطر والفرح، والأشر الذي هو مبدأ الطغيان والغفلة عن الله تعالى.
رابعًا: تذكّر بلاء الله وعذابه وأهل البلاء؛ فإنّ الشبعان ينسى الجائع، وينسى الجوع.
خامسًا: كسر شهوات المعاصي، والاستيلاء على النفس الأمَّارة بالسوء؛ فإن منشأ المعاصي كله الشهوات والقوى،
ومادة القوى والشهوات لا محالة الأطعمة، فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة.
سادسًا: دفع النوم ودوام السهر؛ فإن من شبع شرب كثيرًا، ومن كثر شربه كثر نومه، وفي كثرة النوم ضياع العمر،
وفوت التهجُّد، وبلادة الطبع، وقساوة القلب.
سابعًا: تيسير المواظبة على العبادة؛ فإنّ الأكل يمنع من كثرة العبادات؛ لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل.
ثامنًا: صحة البدن ودفع الأمراض؛ فإن سببها كثرة الأكل، وحصول فضلة الأخلاط في المعدة والعروق، وفي الجوع ما يمنع ذلك.
تاسعًا: خفة المؤونة؛ فإن مَنْ تعوَّد قلة الأكل، كفاه من المال قدر يسير، والذي تعوَّد الشبع صار بطنه غريمًا ملازمًا له.
عاشرًا: الإيثار والتصدق بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين، فيكون يوم القيامة في ظل صدقته كل متصدق يرجو وجه ربه.
••سير وعبر للجوع مع النبي ••
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال:
(الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ،
وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلاَءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)
رواه أحمد (1481) والترمذي (2398) وابن ماجه (4023) قال الترمذي (حديث حسن صحيح) وصححه ابن حبان(2900).
عن النعمان بن بشير قال: سمعت عمر بن الخطاب يخطب فذكر ما فتح على الناس فقال:
((لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْتَوِي يَوْمَهُ مِنَ الْجُوعِ مَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ))
رواه مسلم (2978) والطيالسي (57) واللفظ له.
••••••••••••••••••
ومن الجوع الذي حل بالنبي ما كان في شعب أبي طالب حيث بقوا فيه ثلاث سنين في ظل مقاطعة تامة من المشركين
كما رواه أبو نعيم في دلائل النبوة (205) واللفظ له ونحوه عند البيهقي في دلائل النبوة 2/311
عن عروة بن الزبير قال: لما أقبل عمرو بن العاص من الحبشة من عند النجاشي إلى مكة اشتد المشركون على المسلمين كأشد ما كانوا
حتى بلغ المسلمين الجهدُ واشتد عليهم البلاء وعمد المشركون من قريش فأجمعوا مكرهم وأمرهم
على أن يقتلوا رسول الله علانية فلما رأى ذلك أبو طالب جمع بني عبد المطلب
فأجمع لهم أمرهم على أن يدخلوا رسول الله شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله
فاجتمعوا على ذلك كافرهم ومسلمهم منهم من فعله حمية ومنهم من فعله إيمانا ويقينا
فلما عرفت قريش أن القوم قد اجتمعوا ومنعوا الرسول واجتمعوا على ذلك كافرهم ومسلمهم
اجتمع المشركون من قريش فأجمعوا أمرهم على أن لا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله
للقتل وكتبوا بمكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق أن لا يقبلوا من بني هاشم أبدا صلحا ولا تأخذهم بهم رأفة ولا رحمة ولا هوادة
حتى يسلموا رسول الله للقتل فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين
واشتد عليهم فيهن البلاء والجهد وقطعوا عليهم الأسواق فلا يتركون طعاما يدنو من مكة ولا بيعا إلا بادروا إليه؛
ليقتلهم الجوع يريدون أن يتناولوا بذلك سفك دم رسول الله .
ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله ذات يوم " أو ليلة" فإذا هو بأبي بكر وعمر،
فقال: (مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ) ؟ قالا: أخرجنا الجوع من بيوتنا والذي بعثك بالحق
قال: (وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا) فقاموا معه، فأتى رجلا من الأنصار
فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة، قالت: مرحبا وأهلا، فقال لها رسول الله : ((أَينَ فُلان؟))
قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله وصاحبيه،
ثم قال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني، قال: فانطلق، فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب،
فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال له رسول الله : (إِيَّاكَ، وَالْحَلُوبَ) فذبح لهم،
فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله لأبي بكر، وعمر:
(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ)
رواه مسلم (2038).
الروابط المفضلة