إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ باللـه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده اللـه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له .
((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللـه وَقُولُـوا قَوْلا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُـمْ أَعْمَـالَكُمْ وَيَغْفِــرْ لَكُـمْ ذُنُوبَكُـمْ وَمَـنْ يُطِـعِ اللـه وَرَسُولَـهُ فَقَــدْ فَـازَ فَوْزًا عَظِيمًا )) الأحزاب
أما بعـــد ...
فإن أصدق الحديث كلام اللـه ، وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثــة بدعة وكل بدعــة ضلالة وكل ضلالة فى النار ثم أما بعد ..
أحبتى فى اللـه
هذا هو لقاءنا الثالث عشر من لقاءات هذه السلسة الكريمة المباركة وكنا قد توقفنا فى اللقاء الماضى مع هذا المشهد المهيب الكريم حين يأتى الملك الحق جلا جلاله إلى أرض المحشر إتياناً يليق بكماله وجلاله مصداقاً لقوله سبحانه { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } البقرة
وهنا يبدأ الحساب للعباد ، وهذا هو لقاءنا اليوم وسوف ينتظم حديثنا فى العناصر التالية :-
أولاً : لا ظلم اليوم .
ثانياً : العرض على اللـه وأخذ الكتب .
ثالثاً : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
رابعا : من هى أول أمة سيحاسبها اللـه جل علاه ؟
فأعيرونى القلوب والأسماع . واللـه أسال أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض إنه حليم كريم رحيم .
أولاً : لا ظلــم اليـــــوم
أيها الأحباب الكرام : واللـه لو عذب اللـه أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، فهم عبيده فى ملكه ، فالمالك يتصرف فى ملكه كيف يشاء ، ولكنه برحمته سبحانه وتعالى وكرمه وحنانه ولطفه بعبيده قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرماً .
قال تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ }
وقال أيضاً فى الحديث القدسى الذى رواه مسلم من حديث أبى ذر عن الحبيب النبى عن رب العزة قال تعالى :
(( ياعبادى إنى حَرَّمْتُ الظلمَ على نفسى وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا )) النساء
فاللـه جل وعلا عدل ، لطيف ، حليم ، كريم لا يظلم أحداً من خلقه ، ولا يظلم أحداً من عباده ، ولذا فإن اللـه جل وعلا يحاسب العباد يوم القيامة وفقاً للقواعد التالية : -
القاعدة الأولى : العدل التام الـذى لا يشوبــه أى ظلـم .
قــال تعـالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } الأنبياء
اعلم أنك لن تعرض على محكمة كمحاكم الدنيا ففى محاكم الدنيا قد يجيد الخصومُ التزويرَ والتحريفَ ولكن اعلم بأن الذى سيتولى محاكمتك يوم القيامة هو اللـه الذى قال : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ
(19)وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } غافر
قال تعالى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } الزلزلة
فالمقصود أن عمل ابن آدم كله محفوظ ومسطور فى كتاب عند اللـه جل وعلا لايضل ربى ولا ينسى واعلم علم اليقين أن ما نسيه الإنسان لا ينساه الرحمن .
القاعدة الثانية : أن لا تَزِرُ وزارة وِزْرَ أخرى
قال تعالى : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا(13)اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(14)مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا }
الإسراء
وقال تعالى : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى(36)وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى(37)أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(38)وَأَنْ لَيْسَ للإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى(39)وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى(40)ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى } النجم
فلا تتحمل نفس ذنب نفس أخرى ، بل سيمر الولد يوم القيامة على والده فيقول له والده : أى بنى أنا أبوك ! اعطنى حسنةً من حسناتك فلقد كنت لك نِعْمَ الأب فيقول الابن لأبيه: نفسى ! ويقول الابن لأمه: نفسى .
وكيف لا ؟!! وقد قال كل نبى من الأنبياء نفسى ، نفسى ، نفسى. إلا الحبيب المحبوب محمد .
القاعدة الثالثة : إعذار اللـه لخلقه
إن اللـه سبحانه يعلم عمل العباد من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه القيامة ، ومع ذلك من عظيم عدله وفضله وكرمه ، أن يعرض على العباد أعمالهم يوم القيامة حتى لا يكون لأحد عذر بين يديه .
قال تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } آل عمران
القاعدة الرابعة : إقامة الشهود على العباد يوم القيامة
وإن أعظم شهيد على العباد يوم القيامة هو الملك الذى يعلم السر وأخفى وعلم ماكان وما هو كائن وما سيكون .
قال تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} النساء
ثم تأتى الرسل وتشهد على جميع الأمم ثم تأتى أمة الحبيب لتشهد على جميع الأمم ، يشهد كل رسول على أمته وتأتى أمة المحبوب لتشهد على جميع الأمم ثم يأتى خير الأولين والأخرين ليشهد على الجميع .
اللـه أكبر!! اللـه أكبر !!
قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } البقرة
وقال الملك لحبيبه المصطفى :
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } النساء
وفى صحيح البخارى من حديث أبى سعيد الخدرى أن الحبيب النبى قال : (( يُدْعَى نوحُُ يوم القيامة فيقال له : يا نوح ، فيقول نوح : لبيك وسعديك . فيقول اللـه : هل بَلَّغْتَ قومك ؟!! فيقول نوح : نعم يارب فيدعى قوم نوح ويقال لهم : هل بَلَّغَكُم نوح :فيقولون : لا ما أتانا من أحد . فيقول اللـه جل وعلا : من يَشْهَد لك يانوح ؟! فيقول نوح : يشهد لى محمد وأمته ، يقول المصطفى : فتدعون فتشهدون له ثم أشهد عليكم فكذلك قول اللـه تعالى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }
ثم تشهد الملائكة ، قال تعالى :
(( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ )) ق
ثم تشهد الأرض بما عمل على ظهرها من طاعات وسيئات ففى الحديث الصحيح الذى رواه الترمذى من حديث أبى هريرة أنه
(( قرأ يوماً قول اللـه { يومئذ تحدث أخبارها } الزلزلة
قال المصطفى : أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا اللـه ورسوله أعلم ، قال : (( أخبارها أن تشهد الأرض على كل عبد أو أَمَةٍ بما عمل على ظَهْرِهَا فتقول : يارب لقد عمل كذا وكذا فى يوم كذا وكذا فهذا أخبارها ))
فيجادل العبد اللئيم ربه الكريم ويقول يارب أنا أرفض هذه الشهادة وأرفض هؤلاء الشهود ولا أقبل شاهداً إلا من نفسى .
القاعدة الخامسة : مضاعفة الحسنات لأهل الإيمان
مضاعفة الحسنات لأهل التوحيد والإيمان
{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } الحديد
فاللـه سبحانه وتعالى يضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها .
قال تعالى : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } الأنعام
ويقول المصطفى كما فى الحديث الذى رواه أحمد فى مسنده والحاكم فى مستدركه وحسن الحديث شيخنا الألبانى من حديث أبى ذر الغفارى أن النبى قال : قال اللـه تعالى فى الحديث القدسى
(( الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد والسيئة واحدة أو أغفرها ))
وفى الحديث الذى رواه الترمذى وصححه الشيخ الألبانى من حديث ابن مسعود أن النبى قال (( من قرأ حرفاً من كتاب اللـه فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول { ألم } حرف ، ولكن { ألف } حرف
{ ولام } حرف {وميم } حرف ))
تدبر معى أيها الحبيب الكريم بل قد يضاعف اللـه الحسنة إلى أكثر من سبعمائة ضعف فذلك قول اللـه تعالى :
{ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } البقرة
وهناك من الأعمال ما لا يعلم ثوابها إلا اللـه .
قال تعالى فـى الحديث القدسى المخرج فـى الصحيحيـن : قال : قال اللـه تعالى : (( كل عمل ابن آدم لـه إلا الصوم فإنـه لى وأنا أجزى به ))
ولك أن تتصور الجزاء من الواسع الكريم جل جلاله على الصبر .
قال اللـه فيه
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر
القاعدة السادسة والأخيرة : تبديل السيئات حسنات
وفى الحديث الصحيح الذى رواه مسلم من حديث أبى ذر رضى اللـه عنه أنه قال حدثنا الصادق المصدوق فقال :
(( إنى لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة وآخر أهل النار خروجاً منها ، رجل يأتى به يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغارها ، فيقال له: عملت يوم كذا وكذا ، وعملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا فيقول : نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه ))
وفى هذه الحالة الرهيبة من الرعب والفزع يقال له :
(( إن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول العبد : ربى قد عملت أشياء لا أراها ها هنا ، قال أبو ذر فلقد رأيت النبى ضحك حتى بدت نواجزه ))
هذا فضل اللـه جل وعلا على عباده المؤمنين .
الروابط المفضلة