فتح مكة:
في السنة 8 والنصف من الهجرة آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل عام الفتح في ليلتين خلتا من رمضان، فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وكان معه عشرة آلاف من الفرسان. فأصبح الناس منهم الصائم ومنهم المفطر، حتى إذا بلغوا الكديد وهو ماء بين عسفان وقديد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من الماء فرفعه حتى إذا نظر إليه الناس ثم شرب. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مفطرا حتى انسلخ شهر رمضان.
كتب حاطب ابن أبي بلتعه رضي الله عنه إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأوحى الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، فدل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المرأة التي معها الكتاب، فأرسل إليها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود رضي الله عنهم فأتوها وطلبوا منها أن تخرج الكتاب أو لتلقى بالثياب فأخرجته من ضفيرتها، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا حاطب ما هذا؟ فقال حاطب أنه ما أرسل الكتاب كفرا ولا ارتدادا عن دينه ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله: صلى الله عليه وسلم إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
التماس قريش خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وقد بلغ قريشا مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج أبو سفيان ومعه رجال من قريش يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهرانـ فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة. فرآهم ناس من حراس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم فآتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه حبس العباس بن عبد المطلب أبا سفيان خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين، فجعلت القبائل تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان. وكلما مرت قبيلة سأل أبو سفيان العباس من هذه؟ فيجيب عليه العباس باسم القبيلة، حتى إذا اقبلت كتيبة لم ير مثلها فقال أبو سفيان: من هذه ؟! فقال العباس: هؤلاء الأنصار، عليهم سعد بن عبادة معه الراية, فقال سعد: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة، فقال أبو سفيان يا عباس حبذا يوم الذمار. ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو سفيان: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ فقال قال كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون. وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير بن العوام على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة بن الجراح على البياذقة وبطن الوادي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار أن موعدكم الصفا، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا، وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا فجاء العباس بن عبد المطلب ومعه أبو سفيان فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فلو جعلت له شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح من أعلى مكة وهو على ناقته، دخلها وهو يقرأ سورة الفتح وعلى رأسه المغفر، وعليه عمامة سوداء بغير إحرام وكان لواؤه أبيض, وأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل البيت الحرام وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت، فأخرجت صورة إبراهيم وإسماعيل في إيديهما الأزلام فغضب عليهم وقال قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يمحو الصور، قبل عمر ثوبا ومحاها. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل إلى الحجر فاستلمه ثم طاف بالبيت. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة من الحجبة أن يأتي بمفتاح البيت، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت نهارا طويلا ثم خرج. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من طوافه أتى الصفا، فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ثم رفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بعد أن فتح الله تعالى مكة على الناس فأوضح لأهلها حرمتها حتى لا يقع في قلوبهم من ذلك شك. وقال: إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس. لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما وإن الله أذن لرسوله القتال فيها ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس.


تسابق الناس والقبائل للإسلام بعد الفتح:
كانت القبائل قبل الفتح تنتظر الفتح لكي تسلم فيقولون: اتركوه وقومه، فإن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قو بإسلامهم.
وقد سرقت امرأة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه فلما كلم أسامة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم تلون وجهه وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها.
وقد أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح الناس إلا أربعة نفر وامرأتين. وكان ممن أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه: ابن خطل، فلما أناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ونزع مغفرة جاءه رجل فقال إن أبي أخطل متعلق بأستار الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتله. وكان ممن أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي سرح. وقد اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في بيت أم هانئ بنت أبي طالب ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات. وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يوم الفتح تسعة عشر يوما, يقصر الصلاة فيصليها ركعتين.
الغزوات بعد الفتح: بعد أن فتح الله تعالى على رسوله بلده الحرام بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه لدعوة القبائل والفئام. فبعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا, فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا له ذلك فرفع النبي يديه فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد.
يوم حنين ((هوازن وغطفان)): ولما كان يوم حنين جمعت هوازن وغطفان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جمعا كثيرا، فجاؤوا بالصبيان والنساء والإبل والنعم فجعلوهم صفوفا، يكثرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوهم خلف ظهورهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف أو أكثر،ولزم العباس بن عبد المطلب هو و أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفارقاه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء. فحمل المسلمون يومئذ على المشركين فانكشفوا، فأكب المسلمون على الغنائم، فاستقبلتهم هوازن بالسهام، وكانوا رماة لا يكاد يسقط لهم سهم فرشقوا المسلمين رشقا ما يكادون يخطئون فولى المسلمون مدبرين. وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار فنكصوا على أقدامهم نحوا من ثمانين قدما ولم يولوا الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة. فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قِبل الكفار والعباس آخذ بلجام البغلة يكفها إرادة أن لا تسرع, فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا واسنتصر، ثم قال: أي عباس ناد أصحاب السمرة, فقال العباس: أين أصحاب السمرة فقالوا: يا لبيك يا لبيك. فقال: فاقتتلوا والكفار. ونادى يومئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فقالوا لبيك يا رسول الله امش نحن معك. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته يمضي قدما إذ حادت به بغلته، فمال عن السرج فقال له عبدالله بن مسعود ارتفع رفك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ناولني كفا من تراب، ثم استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه القوم فقال: شاهت الوجوه، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة بأن لا يقتلوا ذرية ولا عسيفا. وكان في المشركين رجل يحمل على المسلمين فيدقهم ويحطهم فلما رأى ذلك نبي الله نزل، فهزمهم الله عز وجل وولى المشركون أدبارهم، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين. فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم حين رأى الفتح. فجعل يجاء بهم أسارى رجلا رجلا فيبايعونه على الإسلام. وأصاب المسلمون يومئذ من الغنائم فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الطلقاء وقسم فيها فقالت الأنصار: ندعى عند الكرة وتقسم الغنيمة لغيرنا! فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فجمعهم وقعد في قبة فقال:يا معشر الأنصار لو أن الناس سلكوا واديا وسلكت الأنصار شعبا لأخذت شعب الأنصار! أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم تحوزونه إلى بيوتكم. فقال الأنصار رضينا يا رسول الله، رضينا.
قدوم وفد هوازن:ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معي من ترون، فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال, وكان رسول الله قد أنظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبين لهم أن رسول الله غير راد إليهم إلا أحدى الطائفتين قالوا: فإنا نختار سبينا.
غزوة أوطاس:لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر عبيد بن سليم الأشعري رضي الله عنه على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد وهزم الله أصحابه.
غزوة الطائف: لما امتن الرب جل جلاله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح حنين وهزمهم الله تعالى، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم ثم انطلق بها إلى الطائف، وكان ذلك في شوال سنة ثمان فحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم حصن الطائف. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: من بلغ بسهم في سبيل الله فله درجة الجنة، فهو له عدل محرر، ومن أصابه شيب في سبيل الله عز وجل فهو له نور يوم القيامة. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أربعين ليلة أنه لم ينل من أهل الطائف شيئا، قال لأصحابه إنا قافلون إن شاء الله. فقال أصحابه: نرجع ولم تفتتحه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغدوا على القتال، فغدوا عليه فأصابهم جراح. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قافلون غددا فأعجبهم ذلك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله يعتق من جاءه من عبيد أهل الطائف إذا أسلموا قبل مواليهم. فأعتق يوم الطائف رجلين.
عمرته صلى الله عليه وسلم مع الجعرانة: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف ونزل بالجعرانة بين مكة والمدينة, وهناك حدثت بعض الحوادث حيث أعتق النبي صلى الله عليه وسلم سبايا الناس. وقد اشتكى بعض الناس يظنون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعدل في القسمة. وقد اعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوان مائة من النعم ثم مائة ثم مائة. وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ولم يكن في الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم قالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصدقتم: أتينا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت لها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار. فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا. ثم توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاعتمر من الجعرانة حين قسم غنائم حنين، وكان ذلك في ذي القعدة، وقصر معاوية بن أبي سفيان من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة بمشقص.
غزوة تبوك: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام خلف علي أبي طالب بالمدينة، فقال علي: أتخلفني في النساء والصبيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بالصلاة، ثم ركب الناس فلما أن طلعت الشمس نعس الناس على إثر الدلحة، ولزم معاذ بن جبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو أثره والناس تفرقت بهم ركابهم على جواد الطريق تأكل وتسير. فقال معاذ: يا رسول الله ائذن لي أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم سلني ما شئت. فقال معاذ: يا نبي الله حدثني بعمل يدخلني الجنة، لا أسألك عن شيء غيرها؟ فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله واليوم الآخر وتقيم الصلاة وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا حتى تموت وأنت على ذلك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رأس الأمر: الإسلام، وأما عموده فالصلاة ، وأما ذروة سنامه فالجهاد في سبيل الله. وقال: الصوم جنة، والصدقة وقيام العبد في جوف الليل يكفر الخطايا. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن أكثر ما يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
وقد نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالحجر، ثم بيوت ثمود فاستسقى الناس من الآبار التي كان يشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهراقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل. ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منه الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا. وقد أصاب الناس مجاعة فقالوا يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا. فقال لهم افعلوا. فجاء عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله إن فعلت قل الظهر. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنطع فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجيء بكف ذرة ويجيء الآخر بكف التمر ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم. فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه، فأكلوا حتى شبعوا. حتى إذا كان يوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم ستأتون غذا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس ن مائها شيئا حتى آتي.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك قال: ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقم فيها أحد منكم،فمن كان له بعير فليشد عقاله. فهبت ريح شديدة فقام رجل فحملته حتى ألقته بحبلي طيء. وقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته قبل صلاة الفجر، ومسح على الخفين ، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس قد قدموا عبدالرحمن بن عوف فصلى لهم، فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين فلما سلم عبدالرحمن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته، فأفزع ذلك المسلمين، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته: أقبل عليهم، ثم قال : أحسنتم. وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في خباء من أدم جالس بفناء الخباء إذ جاءه عوف بن مالك الأشجعي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عوف، احفظ خلالا ستا بين يدي الساعة إحداهن موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم داء يستشهد الله به ذراريكم وأنفسكم ويزكي به أعمالك، ثم تكون الأموال فيكم وفتنة تكون بينكم لا يبقى بيت مسلم إلا دخلته، ثم تكون بينكم وبين بني الأصفر هدنة فيغدرون بكم. وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى وانصرف إليهم قال لهم: لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي: أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه. ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعبا. وأحلت لي الغنائم آكلها وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعه. والخامسة هي ما هي،قيل لي: سل فإن كل نبي قد سأل. فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله.
وقال عبد الله بن أبي ابن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال زيد بن أرقم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فحلف عبدالله بن أبي ما قاله، فلامني قومي وقالوا ما أردت إلا هذه. فأتيت البيت ونمت كئيبا حزينا، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن الله قد صدقك.
وقد جهد الإبل جهدا شديدا فشكى الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما بإبلهم من الجهد، فتحين بهم مضيقا فسار النبي صلى الله عليه وسلم فيه فجعل ينفخ بظهرهم اللهم احمل عليها في سبيلك إنك تحمل على القوي والضعيف وعلى الرطب واليابس في البحر والبر. فما بلغت المدينة حتى جعلت تنازع أصحابها أزمتها. وقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم بعير جابر بن عبدالله بثلاثة عشر دينارا ولكنه عندما قدم إلى المدينة أعطاه الثمن والبعير.
ولما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة قال: إن بالمدينة لقوما ما سرتم من مسير، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم فيه. قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهم بالمدينة حبسهم العذر.
قصة كعب بن مالك والمخلفين:
قال كعب بن مالك: إني لم أكن أقوى قط و لا أيسر مني، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة. فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا وعدوا كثيرا، فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، فقلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل. فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إن أردت. فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر الناس بالجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا. حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت ثم لم يقدر لي ذلك. ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوكا، فقال: ما فعل كعب بن مالك؟ قال رجل من بني سلمة: حبسه براده والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي(حزني) فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدا؟! فلما قيل لي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل، فأجمعت صدقه. وصبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جاءه الملخفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله. حتى جئت فلما سلمت تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم المغضب ثم قال: تعال، فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك(راحلتك)؟ فقلت: يا رسول الله إني لأحدثك حديث صدق، والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك. فقمت وكان رجلان قد لقيا معي وقالا مثل ما قلت. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت أطلقها أم ماذ أفعل. فقال: لا بل اعتزلها فلا تقربنها. فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا. ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال ضاقت بي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت. سمعت صوت صاروخ أوفى عل سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فخررت ساجدا، وعرفت أنه قد جاء فرج. فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قِبَل صاحبي مبشرون وركض رجل إلي فرسا. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته ووالله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما. فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنؤوني بالتوبة ويقولون لتهنئك توبة الله عليك.حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني. فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور ويقول: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك. فقلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بل من عند الله. فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك بعض مالك فهو خير لم. وقلت: يا رسول الله، إن الله أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت. والله ما أنعم علي من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا.
عام الوفود: قد امتن الرب جل جلاله على رسوله صلى الله عليه وسلم بجزيل عطاياه وخيراته، فبعد فتح مكة وغزوة تبوك التي هي آخر غزواته، قدمت عليه الوفود.
وفد ثقيف: فقدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واشترطوا عليه أن لا صدقة عليهم ولا جهاد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا. وقد جعل الله إمامهم عثمان بن أبي العاص وقد أخبره أن إذا أمم قومه أن يخفف بهم الصلاة وإذا صلى لنفسه فيصلي كيف شاء. قال عثمان: لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي ، حتى ما أدري ماذا أصلي، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت له: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي، وقراءتي يلبسها علي، حتى ما أدري ما أصلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان يقال له خنزب، فدنوت منه فجلست على صدور قدمي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري بيده وتفل في فمي وقال: اخرج عدو الله. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ثم قال: الحق بعملك. قال عثمان فلعمري ما أحسبه خالطني بعد.
وفاة عبدالله بن أبيّ ابن سلول: ولما توفي عبد الله بن أبيّ ابن سلول جاء ابنه عبدالله رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم سأله أن يصلي عليه فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه ليصلي ، فتحول عمر بن الخطاب حتى قام فقال: يا رسول الله أَعَلى عدو الله عبدالله بن أبي وقد قال يوما: كذا وكذا.وعدد إليه قوله. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عمر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :أخر عني يا عمر. فلما أكثر عليه عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله ، وإني خيرت فاخترت, لو أعلم إني إن زدت على السبعين يغفر له، لزدت عليها. فقال عمر: إنه منافق. فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف. قال عمر: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم فلم يمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان من براءة فأنزل الله:{ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله.
أمره صلى الله عليه وسلم أبا بكر عنه بالحج: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق في الحجة التي قبل حجة الوداع، ثم أردف رسول لله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه فأمره أن يؤذن بسورة (براءة). فبينما أبو بكر في بعض الطريق إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء، فخرج أبو بكر فزعا فظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو علي فدفع علي إلى أبي بكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلقا فحجا فقام علي أيام التشريق فنادى: ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك فيسحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن.
وفد بني تميم: وقدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: يا رسول الله استعمله على قومه. فقال عمر: لا تستعمله يا رسول الله. فكاد الخيران أن يهلكا، فقال أبو بكر: ما أدرت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك! فأنزل الله الآيات الثلاثة الأولى من سورة الحجرات فكان عمر إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث بعد هذه الآية حدّثه كأخي السرار لم يسمعه حتى يستفهمه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال عمران بن حصين: أتى ناس من بني تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم. قالوا: قد بشرتنا فأعطنا قد بشرتنا فأعطنا. ثم دخل عليه ناس من اليمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم. قالوا: قد قبلنا يا رسول الله، جئناك نسألك عن هذا الأمر. فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الله.
وفد عبد القيس:وأتى وفد عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوفد؟ قالوا ربيعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحبا بالقوم غير خزايا ولا ندامى. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده, وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس. وأنهاكم عن الدباء, والخنتم والمزقت والنقير احفظوهن وأخبرو بهن من وراءكم. وكان وفد عبد القيس لما قدموا إلى المدينة جعلوا يتبادرون من رواحلهم فيقبلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم. وانتظر المنذر بن الأشج حتى أتى مستودع ثيابه فلبس ثوبيه ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن فيك خلتين يحبهما الله: الحلم والأناة. فقال أشج عبد القيس: يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل الله جبلك عليهما. فقال أشج: الحمدلله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله. ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد القيس وقال: إن خير أهل المشرق عبد القيس.
إسلام سيد أهل اليمامة ثمامة بن أثال رضي الله عنه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث خيلا قِبَل نجد فجاءت برجل من بني حنيفه يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد. فخرج إليه رسوله الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال ثمامة: عندي يا محمد خير، إن تَقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد، فرد عليه السؤال ثم أجاب ثمامة بنفس الإجابة . فتركه رسول الله إلى الغد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال ثمامة: عندي ما قلت لك، وإن تنعم تنعم على شاكر إن تَقتل تقتل ذا دم. ثم بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أطلقوا ثمامة. فقذف الله عز وجل في قلبه ، فذهبوا به إلى بئر الأنصار فغسلوه فأسلم ثم دخل المسجد فنطق الشهادتين ثم قال: يا محمد ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر. فلما قدم إلى مكة قال له قائل:أصبوت؟ فقال ثمامة: لا ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتينكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتى ثمامة اليمامة فحبس عن أهل مكة فضجوا وضجروا وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمره بالصلة فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه.
وفد مسيلمة الكذاب: ثم قدم وفد مسيلمة الكذاب على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فجعل يقول: أن جعل لي محمد الأمر من بعده لتبعته. فقدمها مسيلمة الكذاب في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس وهو خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة جريدة حتى وقف على مسيلمة في أصحابه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن أتعدى أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيك ما أريت، وهذا ثابت يجيبك عني. ثم انصرف عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وفد نجران: وجاء العاقب عبد المسيح والسيد الأيهم صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاجان في أمر عيسى ابن مريم عليه السلام، ويريدان أن يلاعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله الآيات 59-61 من سورة آل عمران. فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبينا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. فقالا: نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأبعثن معكم رجلا أمين حق أمين. فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا أبا عبيدة بن الجراح. وهو أمين هذه الأمة.
إسلام ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه: وبينما النبي صلى الله عليه وسلم جالسا مع أصحابه في المسجد، إذ دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال: أيكم محمد؟ والنبي متكئ بين ظهرانيهم. فقالوا: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال له الرجل: ابن عبد المطلب؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك. فقال الرجل: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل عما بدا لك. فسأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم عن عدة أمور ثم أسلم. ثم أتى الرجل إلى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج على قومه فاجتمعوا إليه فقال: بئست اللات والعزى. فقالوا: مه يا ضمام، اتق البراص والجذام اتق الجنون. فقال: ويلكم إنهما لا يضران ولا ينفعان إن الله عز وجل قد بعث رسولا وأنزل عليكم كتابا اسنتقذكم به مما كنتم فيه. فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما.
إسلام عدي بن حاتم رضي الله عنه: أتى عدي بن حاتم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، ثم أخذ بيدي عدي بن حاتم حتى أتى بي داره فألقت له الجارية وسادة فجلس عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وجلس عدي بن يديه فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الله، وأثنى عليه ثم قال: يا عدي أسلم تسلم ثلاث مرات. فأسلم عدي بعد أن كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل عند رجل من الأنصار فجعل عدي يغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتيه طرفي النهار.
وفد دوس: وقدم رجال من دوس وفيهم الطفيل وأصحابه فقالوا يا رسول الله، إن دوسا قد كفرت وأبت فادع الله عليها. فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة فقال: اللهم اهد دوسا وائت بهم.
وفد أهل اليمن: وكان ممن قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل اليمن, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاء أهل اليمن هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية.
وفد كندة: وقد وفِد وفْد كندة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم الأشعث بن قيس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من ولد؟ فقال: غلام ولد لي في مخرجي إليك من ابنة جمد، ولوددت أن مكانه شبع القوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولن ذلك، فإن فيهم قرة عين ولئن قلت ذاك: إنهم لمجبنة محزنة.
وفد بجلة وتحريق ذي الخلصة: وكان ممن قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعا:جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه. فقدم المدينة والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ عرض في خطبته: يدخل عليكم من هذا الباب، أو من هذا الفج ذو يمن، ألا إن على وجهه مسحة ملك. قال جرير: فحمدت الله عز وجل على ما أبلاني ثم بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والسمع والطاعة والنصح لكل مسلم. وكان في الجاهلية بيت يقال له ذو الخلصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجرير: يا جرجر ألا تريحني من ذي الخلصة. وكان ذو الخلصة بيتا ظاهرا لخثعم وبجيلة فيه نصب تعبد يقال له : الكعبة فأتاها جرير فحرقها بالنار وكسرها.
إسلام تميم الداري رضي الله عنه وحديث الجساسة: وقد قدم تميم الداري على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعه فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة ذات ليلة ثم خرج فقال: إنه حبسني حديث كان يحدثينه تميم الداري. فنادي منادي: الصلاة جامعة. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم به عن المسيح الدجال. حدثني أنه ركب سفينة بحرية فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم قربوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدورن ما قبله من دبره من كثرة شعره، فقالوا ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة ، يا أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق. قال تميم: فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا وأشده وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد قلنا ويلك من أنت؟ فقال أخبروني من أنتم فأخبرناه عن خبرنا. فقال: إني أنا المسيح وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا ادع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير طيبة ومكة فهما محرمتان علي كلتاهما. ثم طعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة. ألا هل كنت حدثتكم ذلك. فقال الناس: نعم.
حديث الراعي:وأقبل راع يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزوى غنمه إلى زاوية من زواياها ثم أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن الذئب عدا على شاة فأخذها فطلبه الراعي فانتزعها منه. فأقعى الذئب على ذنبه، فقال: ألا تتقي الله؟ تنزع مني رزقا ساقه الله إلي! فقال الراعي: يا عجبي! ذئب مقع على ذنبه يكلمني كلام الأنس؟ فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي الصلاة جامعة، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للراعي أخبرهم فأخبرهم الراعي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الأنس ويكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله، ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده.
إرسال معاذ وأبو موسى رضي الله عنه إلى اليمن ووصيته صلى الله عليه وسلم لهما: وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما إلى اليمن، فقال: يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: إنك تقدم على قوم أهل كتاب فإذا جئتهم فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، وأن الله فرض عليهم زكاة ، وتوق كرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب. وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بضع وصايا فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، أو لعلك أن تمر بمسجدي أو قبري. فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال النبي: لا تبك يا معاذ، إن البكاء من الشيطان.
إرسال علي رضي الله عنه إلى اليمن: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا إلى اليمن فقال علي: يا رسول الله، تبعثني إلى قوم أسن مني، وأنا حديث لا أبصر القضاء؟ فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: اللهم ثبت لسانه واهد قلبه، يا علي إذا جلس الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء. قال علي: فما اختلف علي القضاء بعد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث خالد بن الوليد إلى اليمن ثم بعث عليا بعد ذلك مكانه ليقبض الخمس. وكان علي بن أبي طالب أبغض الناس لبريدة بن الحصيب الأسلمي، ولكنه أصبح أحب الناس إليه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم..