محاور البُعد الأخروي في فكر النورسي




أ.د. عبد المجيد النجار




(3)



4- مسلك المنفعة
كثيرا ما كان القرآن الكريم يعرض العقيدة الإسلامية في سياق الدعوة إلى الإيمان بها عرضا استدلاليا ببيان ما تحقِّقه تلك العقيدة للإنسان من نفع في حياته الدنيا قبل حياته الأخرى، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد:28)، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ (طه:124)، ففي الآيتين دعوة إلى الإيمان بالله في سياق استدلالي ببيان ما يؤدي إليه ذلك الإيمان من منفعةِ اطمئنان القلوب، وما يؤدي إليه عدم الإيمان من شقاء المعيشة، ولا غرو فإن الدين كله -والعقيدة على رأسه- لم يكن إلا من أجل تحقيق النفع للإنسان.




وقد كان النورسي متقفيا لهذا المنهج القرآني في استدلاله على الآخرة، إذ كثيرا ما كان يعرض هذه العقيدة لإقناع المخاطَبين في سياق الاستدلال عليها بما تحققه من نفع دنيوي، فاتخَذَ إذن من المنفعة الحاصلة من الإيمان بالبعث دليلا على أن هذه العقيدة جدير بالإنسان أن يؤمن بها، وإذا كان هذا الضرب من الاستدلال يتجه إلى إقناع المخاطَب بالإيمان بالبعث بما هو خارج عن حقيقته الذاتية وهو المنفعة التي تحصل منه، وليس بما هو متعلق بذات تلك الحقيقة، فإنه استدلال مشروع، لأنه يفضي إلى ذات النتيجة، إذ ما تتحقق به منفعة حقيقية للإنسان لا يمكن أن يكون إلا حقا في ذاته، فتثبت إذن أحقيتُه الذاتية من خلال نتائجه؛ ولذلك فقد صاغ النورسي جملة من الأدلة على عقيدة البعث من خلال ما تُحققه من منافع. ومن تلك الأدلة ما يلي:




أ-دليل المنفعة الفردية



بيّن النورسي في مقامات عديدة من مؤلفاته كيف أن الإيمان باليوم الآخر تترتب عليه منفعة نفسية بالغة الأهمية، وتنبثق منه للمؤمن سعادة غامرة، وتكسبه صفات حميدة ترشد أداءه فيما قُدر له من وظيفة خُلق من أجلها، وكذلك تزول به أمراض كثيرة تغشى النفوس وتسبب لها آلاما قد تبلغ بها مبلغ اليأس والقنوط، بل قد تبلغ درجة السعي للتخلص من الحياة، أو تُحْدث فيها قصورا وعاهات تقعد بها عن أداء المهام المطلوب من الإنسان أداؤها في مجمل حياته أو في تصرفاته اليومية.



ومن ذلك على سبيل المثال أن "ما يقلق الإنسان دوما وينغص حياته هو تفكيره الدائم في مصيره وكيفيةِ دخوله القبر، مثلما انتهى إليه مصير أحبته وأقاربه. فتوهُّمُ الإنسانِ أن آلافا بل ملايينَ الملايين من إخوانه البشر ينتهون إلى العدم بالموت ذلك الفراقِ الأبدي الذي لا لقاء بعده سيذيقه هذا التصور ألما شديدا [ولكن حينما يؤمن بالآخرة فإنه] يكسب لذة روحية عميقة تنبئ بلذة الجنة، بما يشاهده من نجاة أحبته وخلاصهم جميعا من الموت النهائي والفناء والبلى والاندثار، ومن بقائهم خالدين في عالم النور الأبدي منتظرين قدومه إليهم". إن عقيدةً تُحقِق هذه المنفعة العظيمة لا يمكن إلا أن تكون حقا جديرة بأن يؤمن بها الإنسان.




وعلى سبيل المثال أيضا: فإن الإنسان في خريف العمر -وقد وهنت قواه وانقطع عطاؤه- قد يشيع فيه ذلك الشعور بأنه أصبح عالة على أهله ومجتمعه، وبأن حياته قد استنفدت أغراضها، وذلك ما من شأنه أن يجعله في حال من اليأس والقنوط والقلق النفسي البالغ، فتضيق عليه الدنيا بما رحبت، وتنقلب الحياة إلى عذاب أليم، وليس من منقذ من ذلك سوى الإيمان باليوم الآخر الذي يجعله يشعر بأنه مقبل قريبا على سعادة أبدية ولقاء بالأحبة، وكلما تقدم به العمر اقترب من ذلك المصير السعيد، فتزداد نفسه قوة يغذيها الأمل، وسعادةً يصنعها الشوق إلى المصير السعيد.


من ثمرات الإيمان بالآخرة
ومما يثمره الإيمان بالآخرة من منفعة ما يحدثه هذا الإيمان في النفس من الصبر وقوة التحمل، إذ لما تصيب الإنسان المصائب، فإن الإيمان بالآخرة هو الذي يقوي من عزمه، ويشد من أزره، إذ يعتقد أن ما أصابه يمكن أن يكون له ذخرا في دار الجزاء، ولا يمكن بحال أن يذهب سدى. وفي هذا الصدد يضرب النورسي مثلا بتجربته الشخصية فيما حصل له من مصائب بتعرضه للسجن والقهر والإهانة والاعتداء على ممتلكاته وبالأخص منها مؤلفاته، ويقول في ذلك: "أتحمل كل هذا الحزن والأسى بذلك الإيمان بالآخرة، رغم أنني ما كنت أتحمل أية إهانة وتحكّم من أي أحد مهما كان؛ إن نور الإيمان بالآخرة وقوّته قد منحني صبرا وجلدا وعزاء وتسلية وصلابة وشوقا للفوز بثواب جهاد عظيم"، ومثل هذا يحصل بالنسبة لكل مكروب وكل مضطهد ومظلوم وكل مصاب بإحدى مصائب الدنيا، فهؤلاء جميعا "ما إن يمدهم الإيمان بالآخرة بالعزاء والسلوان إلا وينشرحون فورا ويتنفسون الصعداء لما يزيل عنهم من الضيق واليأس والقلق والاضطراب".





بـ-دليل المنفعة الاجتماعية
إن أول ما يثمره الإيمان بالمعاد من منفعة اجتماعية هو ما يتمثل في ترشيد العلاقات الأسرية، فهذه العلاقات كثيرا ما تتعرض إلى توترات شديدة بسبب التنازع على المكاسب الدنيوية، ورغبةِ كل طرف في الاستئثار بالمنافع على حساب الأطراف الأخرى، وذلك واقع مشهود عبر الزمن، فإذا ما استنار أفراد الأسرة بنور الإيمان بالمعاد والحساب فإن ذلك ما إن يحل بالبيت الأسري "حتى ينور أرجاءه مباشرة ويستضيء؛ لأن علاقة القربى والرأفة والمحبة التي تربطهم لا تقاس عندئذ ضمن زمن قصير جدا، بل تقاس على وفق علاقات تمتد إلى خلودهم وبقائهم في دار الآخرة والسعادة الأبدية، فيقوم عندئذ كل فرد باحترام خالص تجاه الآخرين".



وعلى نفس هذا النحو يفعل الإيمان بالآخرة فعله في العلاقات الاجتماعية العامة، سواء تلك العلاقات بين أبناء المدينة الواحدة، أو العلاقات بين أبناء البلد بأكمله، أو العلاقات بين الإنسانية جمعاء، "فإن كل مدينة هي بحد ذاتها بيت واسع لسكنتها، فإن لم يكن الإيمان بالآخرة مسيطرا على أفراد هذه العائلة الكبيرة، فسيستولي عليهم الحقد والمنافع الشخصية والاحتيال والأنانية والتكلف والرياء والرشوة والخداع بدلا من أسس الأخلاق الحميدة التي هي الإخلاص والمروءة والفضيلة والمحبة والتضحية".




والبلاد بأكملها ليست إلا بيتا واسعا جدا، والوطن بأكمله هو بيت عائلة الأمة، فإذا ما شاع فيها الإيمان بالآخرة، فإن ذلك الإيمان سيفعل فعله الذي فعله في العلاقات الأسرية، وإلا طغت الأنانية التي تزن الأشياء بميزان دنيوي قصير، فتكون معاني الإرهاب والفوضى والوحشية حاكمة ومسيطرة تحت اسم النظام والأمن والإنسانية، وحينئذ تتسمم الحياة الاجتماعية، فيتصف الأطفال بالوقاحة والإهمال، والشباب بالسكر والعربدة، والأقوياء بالظلم والتجاوز، وتصبح حياة الجماعة حياة مضطربة بائرة، ولو وُزنت الأشياء بميزان أخروي طويل لكان لهذه العلاقات الاجتماعية شأن آخر من الاستقرار والإثمار.
ولا شك أن هذا المنهج الذي ارتآه النورسي في الاستدلال يستوجب على الدارس من العدل ما يجعله لا يقتصر في التقييم على القياس بمقاييس العقل المجرد الصارم في موازينه المنطقية، إذ هو قد وسع الاستدلال ليشمل مناطق القوى الروحية أيضا، وإلا فإننا قد نجد في استدلالات النورسي ما يستحق التعقيب والمراجعة، وكفى هذا المنهج حكمة أن يجد فيه كل مسلم طلبته مهما كان حظه من العلوم العقلية والمنطقية، وليس الأمر كذلك في الكثير إن لم يكن في الأكثر مما أُلف في العقائد الإسلامية.






===========
المصادر
(1) الكلمات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(2) المكتوبات، بديع الزمان سعيد النورسي، ت: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(3) الشعاعات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(4) اللمعات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر للنشر، القاهرة.
(5) عبد المجيد عمر النجار، دار الغرب الإسلامي الإيمان بالله وأثره في الحياة، 1997.
(6) العلم يدعو للإيمان ـ مجموعة من المؤلفين، دار الكتاب العربي.
________________

(*) الأمين العام لمجلس الإفتاء الأوروبي - باريس / فرنسا








,