غزة -معا- أن تدخل قدميك يتبعها باقي جسدك ورأسك في أحد أنفاق رفح جنوب قطاع غزة فإن ذلك يعني ثلاثة من الاحتمالات لا رابع لها؛ إما أن تموت اختناقاً برمال وغاز ومياه راشحة، أو ينهار النفق حولك ويتم انتشالك جثة أو مصاباً، وإما وهذه أكثرها تفاؤلاً تنجح باختراق الحدود وتنال وسام شرف التجارة السوداء وتخرج من عين النفق سالما غانماً تزدان بالنجاح.. ولكن " ليس كل مرة تسلم الجرة".
بدأت قصة الانفاق عندما استخدمها المقاومون ابان الاحتلال الاسرائيلي لقطاع غزة من اجل اخفاء السلاح والمطلوبين ثم تطورت الامور لتستخدمها الفصائل المقاومة في تهريب السلاح ويستخدمها المهربون في تهريب المخدرات وما تيسير من مواد ثمينة الا انها كانت سرية وقليلة جدا . اليوم وبعد سنة ونصف على سيطرة حماس عسكريا على قطاع غزة وفرض اسرائيل اغلاقا وحصارا تاما على القطاع اصبحت الانفاق ظاهرة علنية واصبح لها قوانين وان لم تكن مكتوبة حتى بلغ الامر في كتلة حماس في المجلس التشريعي بأن تعقد جلسة خاصة لمناقشة الانفاق وقوانينها وما اخذ العامة بالتندر به بــ " وزارة الانفاق " .
يصفها الكثيرون ممن خاضها بالمغامرة الصعبة والرحلة الشاقة ولكن لا أحد منهم يجد بديلاً عنها فهي مصدر رزق للآلاف من الشباب العاطلين عن العمل كما أنها مرود تجاري هام لقطاع غزة المحاصر والممنوع من مئات الأصناف من البضائع، بعضها تم جلبه من الأراضي المصرية حتى تطورت هذه التجارة بشكل تدريجي وباتت البضائع التركية والسورية التي اشتاق لها التجار في متناول اليد عبر هذه الخدعة المرورية " أنفاق رفح".
الحدود الفلسطينية المصرية تتراوح بين 11-12 كيلومتراً من أقصى نقطة غربا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى الشرق حيث معبر كرم ابو سالم الذي تسيطر عليه قوات الاحتلال الإسرائيلي، في هذه المسافة وجد التجار ضالتهم فاستعانوا بملاك الأراضي هناك لحفر الأنفاق فتركز العمل في مسافة سبعة كيلومترات وكثف العمل مؤخراً في ثلاثة منها فقط.
يبدأ الحفر من منزل أحدهم أو أرضه يستعين بحفارين وبمعاول وآلات الحفر مثل الكونجو والعمال ( يتراوح عددهم بين 6- 10 ) , منهم من يسقط ضحية ساعات العمل وقلة الهواء تحت الأرض ومنهم من ينهي يومه ويأخذ بيده المعفرة بعض الدولارات، ثم يبدأ الحراك على قدم وساق بفعل عشرة من العمال الجدد لسحب البضائع التي توضع في أكياس وتسحب بالحبال.
زوجات عبر الأنفاق
أندر ما في هذه القصة انك كمواطن محروم من زوجتك تستطيع جلبها عبر هذه الأنفاق، كثير من الأزواج أعادوا الكرة فجلبوا زوجات جدد مصريات عبر الأنفاق وآخرون ممن لم يحالفهم الحظ لاصطحاب زوجاتهم الغربيات إلى قطاع غزة عبر الطرق الشرعية فجلبنهم عبر الأنفاق.
أحد العاملين بهذه الأنفاق قال ان ما معدله عشر زوجات يتم جلبهن شهرياً، وما على هذه السيدة سوى ان ترتدي ما يستر الجسد وتجلس القرفصاء على ما يتم سحبه وبالتالي تجد نفسها بلا مادة مخدرة في قطاع غزة في أحضان عائلتها.
واستطاعت هذه الأنفاق أن ترفد قطاع غزة بما هو ممنوع عنه كالكوكا كولا والبيبسي والشيبس وباقي مستلزمات الحياة إلا ما كبر حجمه، ومن يفقد حاجته في غزة يستطيع أن يوصي أحدهم بها فيتم جلبها له خصيصاً من قاهرة المعز ولكن بمبالغ مضاعفة.
يقول أحدهم:" حاولت جلب فرشة لغرفة النوم فلم يستطع المهربون جلبها وذلك لكبر حجمها ليتهم يقومون بتوسعة هذه الأنفاق لنجلب ما نريد بلا حاجة للمعابر الإسرائيلية التي تقطر علينا حاجياتنا".
يشترون الحياة بالموت
هؤلاء العمال يعلمون أنهم سيواجهون خطر الموت وكما يقول أحد الشباب المعفر بالرمال:" كثير من الشباب ماتوا في الأنفاق فهي خطر محدق وقد تعرضت للموت هنا ثلاث مرات ولكن هذه الطريقة الوحيدة لحياتنا في قطاع غزة المحاصر نجلب البضائع والأدوية والمواد الغذائية وكل ما حرمنا منه".
اما كيفية استنشاقهم الهواء في أمواج من الرمال فيؤكد العاملون أن هناك عدد من مضخات الهواء فوق النفق على مسافات مختلفة يتم تشغيلها لمدة ربع ساعة كل ساعة وتزويد من هم تحت الرمال بالهواء عبر خراطيم للهواء تنعش الرئتين وتزودهم بالأكسجين إلى وقت محدد ثم يتم تشغيل هذه المضخات بين حين وآخر على التوالي.
آخر يقول أثناء محاولته الاطمئنان على باقي الفريق على طول النفق :" نقوم بالاتصال عبر هاتف معلق على جدران الرمال للاطمئنان على بعضنا بعضا ونرصد حركتنا بناء على اتصالاتنا ونستعمله للتواصل كذلك في جلب البضائع من عين النفق برفح المصرية إلى حيث نقف ونسلمها عبر البايلات.
"والبايلات" هي صفائح بلاستيكية مرفوعة الغطاء وأحد الجوانب تتصل بعضها ببعض بواسطة حبل طويل يتم سحبه من عين النفق إلى العين الأخرى بواسطة موتور ملفوف عليه الحبال".
والمسافة التي يضطر عاملو الأنفاق لقطعها تتراوح بين خمسمائة متر وكيلو واحد حيث تقع رفح المصرية على الحدود الفلسطينية المصرية وهناك تبدأ الحركة التجارية حيث يقوم تجار مصريون بوضع بضائعهم بأكياس من النايلون زرقاء اللون كبيرة الأحجام ويتم ربطها من أعلى وتوضع على البايلات ثم يبدأ سحبها عبر النفق وتسلم من مسافة لأخرى عبر عمال الأنفاق الذين ينتشرون على طول النفق.
وكان قبل ان يقدم مقاومون على تفجير الحدود الفلسطينية المصرية في كانون ثاني/يناير ، أما المبلغ هذا فقد يقدر ثم الكيس الواحد بـ 500 دولار حيث حمّل وقتذاك بالدخان فقط، وبعد ان تم تفجير الحدود تم استجلاب بضائع أخرى ليقل السعر إلى 300 دولار ومن ثم تم تخفيضه مؤخراً إلى 200 دولار أميركي حيث امتلأ السوق الغزي بالبضائع المصرية.
ويصطلح مواطنو قطاع غزة على تسمية الحركة التجارية عبر الأنفاق بمسمى " تجارة الأنفاق" وهي وسيلة لم يكن الغزيون يحلمون بأنها ستصبح واقعاً راسخاً في حياتهم تطعمهم الجبن والزيت ولا تبخل عليهم بالسولار والبنزين وحلل الطبخ وأدوات الطهي وهي بضائع خلت منها أسواق غزة حيث يقل العرض عن الطلب.
أما مؤخراً كما يقول أحد " مهربي الأنفاق" فإن العاملون بها اشترطوا على التاجر المستفيد أن يتم خصم 10دولار عن كل كيس تعود هذه الأموال بمجموعها إلى العمال الذين يسحبون هذه البضائع من الجانب المصري.
وحسب أبو حسين أحد العاملين بالأنفاق فإن تكلفة النفق الواحد تتراوح بين 80-90 ألف دولار لما طوله 500 متر فقط وضعف هذا المبلغ لأطول هذه الأنفاق التي تبلغ 1000 متر وقد ازدادت تكلفة النفق الواحد بعد أن تدارك عمالها لتحصينها بالأخشاب خشية انهيارها فوق العمال الذين يعملون داخلها على مدار الساعة، ومؤخراً تم الاستعانة ببعض الحديد المتراكم جراء تفجير الجدار الحدودي وذلك لتدعيم جدران النفق وتثبيته ووصل كوابل الكهرباء عليه.
ويقدر ابو حسين عدد الأنفاق التي تم حفرها من رفح الفلسطينية إلى رفح المصرية بـ 270 نفق ذات عين واحدة بالأراضي الفلسطينية وبعضها بأكثر من عين بالأراضي المصرية وهي حيلة اتخذها أصحاب هذه الأنفاق لتدارك الخسائر التي تنجم عن اكتشاف الأمن المصري لعين من هذه العيون والقيام بردمها حيث يقدر عدد هذه العيون من الجهة المصرية بـ 300-350 عين.
ضحايا الصعق الكهربائي
عمال هذه الأنفاق يتراوح عددهم بين 5000-6000 عامل وهم من صغار السن من العمال العاطلين عن العمل لم يصدقوا أنهم سيحصلون على فرصة للعمل بأي أجر كان ولكنها تسد رمقهم وتقي عائلاتهم من الجوع فانطلقوا إلى هذه الأنفاق تباعاً وهناك سقط منهم من سقط ونجا من نجي.
ومنذ بداية العام الجاري سقط ضحية هذه التجارة 46 مواطناً إما بانهيار النفق من حوله وإما بصعقة كهربائية أو برش المياه بفعل قوات الأمن المصري على عين النفق فينهار على من فيه.
وكان آخر هؤلاء الضحايا المواطن طلال حسني زعرب 20 عاماً من سكان محافظة خانيونس فارق الحياة السبت الموافق الرابع من أكتوبر الجاري أثناء تواجده داخل أحد هذه الأنفاق ليرتفع عدد ضحايا الأنفاق إلى 46 مواطن منذ بداية العام الحالي.
المئات من الأنفاق يفصل بينها مساحات صغيرة على طول الحدود الفلسطينية المصرية ويعمل بها الآلاف من العاطلين عن العمل الباحثين عن لقمة العيش يعملون لصالح تجار وملاك لهذا الأنفاق ويتقاضون راتباً شهرياً يصل إلى 300 دولار فيما تزداد يوماً بعد يوم ثروة التاجر الذي لا يفكر مطلقاً بدخول هذه الأنفاق وتجربة التقاط الأنفاس فيها قبل عرض بضائعه المهربة في أسواق القطاع.
وتبقى غزة رهينة لأنفاقها إلى أن تفتح معابرها وتطل برأسها الموجوع على مصر والعالم ويصبح الحصار نسياً منسياً من ذاكرة أطفالها وشيبتها.
الروابط المفضلة