(من شهيد إلى ولده الذي لم يولد بعد .. )
إلى ولدي الحبيب :
لأني أحبك ، يا أعز عزيز ، قررت الرحيل ..
أردت حين تأتيني أن أضمك بأكثر من ساعدي .. أردت لصدري أن يكون وَسْعُ المدى لأجل عينيك .. لأنني رأيت الوجود صغيراً أمام حبي لك ، وجدت المكان ضيقاً ، و الزمان قصيراً ، غزلت لك السماء و الأرض شال حنون يحملك لتشعر بي، لتلامسني و أنا بعيد ، و تقول : هذا حبك يا أبي ..
لو تدري يا وليدي كم انتظرتك لشهور ! و كم من الأيام و الليالي مرت و أنا أقلب التواريخ و أعد الشهور، فالأيام فالدقائق .. كم حلمت ان اناغيك . . و كم تمنيت أن أستيقظ صباحاً على غنائك الوديع ، و احملك بين ذراعي أزرع دنياك من الغسق حتى الشفق قبلات و أشواق .. و لأجلك ، نصبت الشمس و أهدابي أرجوحة من الأحلام الأرجوانية و غنيت لك .. تركت صداي هناك حتى لا تستوحش الليالي و بردها و أنا تحت تراب النوى ..
لو كنت تدري ، يا ولدي الذي لن أراه ! ، كم حدثت عنك الوهاد و والجبال ، و كم رسمت وجهك الملائكي على خطوط العشق الممتدة بين القلب و الأرض .. و كم حفرت اسمك على صفحات المياه العذبة لتزداد رقرقة ، و ليطول سفرها بين تشعبات الصخر لتحكيك حكاية : ( ابن المقاوم ) ..
لامتني حدود الكون يا ضياء عيوني ، لأني ارتديت عباءة الغياب عنك ، و سألتني نجوم الليل : كيف ترحل عمن انتظرته طوال سنين العذاب ؟ ، و حن تراب المسير و أنا أطأه ليلاً حاملاً جعبه الموت ، على لحظات ستأتي دوني ، على زمن سيمر عليها دون أن تلمح فيها وجهي ، و أنا أردد على مسامعها بهمس : إذا مر ولدي هنا حدثيه عني ، غني له أخباري .. إذا ما مر وليدي هنا ، و قد أصبح شاباً ، تذكري أنه من تربى يتيماً لأجل الوطن ..
طال عتاب الموجودات يا ولدي : ابق لتحمله ولو مرة قبل الوداع ، و أخبرتهم أنهم لو يعرفون مدى التحامي بك ، لو يبصرون شعاع الحب المتدفق من قلبي إلى قلبك ، لعرفوا كيف يكون الرحيل بقاء .. فأنا أردت لك دنيا جميلة ، كوردة نبتت على قمة جبل بين الصخور الصماء لتعلن الحياة أمام الجرد المميت .. و لأنني لم أملك يا ولدي ، سوى روحي و جسدي ، أمدهما أمام طريق مسيرك ، جعلت من فاتهما في سجلات النور لك اسماً ، تشير إليه و تقول : هوذا والدي الشهيد ..
لم أملك في هذه الدنيا غير اسمي و سلاحي العتيق و يقيناً بالله لم تعتره غشاوة ، فعرفت حقيقة الوجود ، و قرأت قرآن الحياة ، حفظت ولاية علي (ع) و اختيار الحسين (ع) .. فكنت كلما نظرت إلى السماء أتذكرك مسائلاً نفسي أي ميراث اتركه لك ؟ فلم أجد شيئاً أغلى من نفسي أقدمها في سبيل الله ، فتكون شهادتي هدية لأجل حياتك ..
ان الحياة علمتني ، يا ولدي العزيز ، أن كل شيء إلى أفول ، و أن الصبح مهما طال فلابد له من أصيل يضمه تحت جناحيه الورديين في مغيب حزين ، ليلجه في دهاليز الليل .. و رأيت العمر وميض برق لا تملك أن توقفه فإذا هو يسير بك في العذاب الهوينى ، و في السعادة سريعاً حتى إذا وصلت إلى عقد من الزمن رمقت الماضي بعين المتحسر ، و أنت تحسب أياماً مرت كأنها لم تكن !
أعرف يا عزيز روحي ، أن اشتياقك لمناداتي ستحرق لواعج فؤادك و أعلم أني كنت أبيع العمر فداء لأجلك .. لا أريد لأي شيء يربطني بك أن يحده حد ، معك دائماً أريد المطلق .. فاعلم يا ولدي اني عشقت الأرض كعشقي لك ، و دعيت ربي في ظلمات الليل ، إذا ما كتبت لك الحياة .. أن تكون شهيداً فالحياة ليست سوى وهم وسراب يترائى للتائهين في دهاليز النفس .. فأبحر في عباب الدنيا كما شئت و دع الرياح تدير دفة سفينتك كيفما دارت ، و لكنك في نهاية الأمر ، لم تجد سوى ميناء الله لترسو فيه سفينتك ، فاحرص على أن يكسر الترحال صوار السفر ..
عندما تكبر يا ولدي ، و تقرأ هذه الكلمات المتناثرة ، تكون سنون النسيان قد طوت كل شيء .. و لكن تذكر أني كنت رجلاً اختار طريق الحقيقة فسار عليها دون خوف أو وجل .. و تذكر أني أحببتك حباً لا يدركه قلب شغل بالمقاييس الدنيوية المحدودة للحب .. أردت لك أن تعرف ..
لأني أحبك يا أعز عزيز ...قررت الرحيل !!
الروابط المفضلة