التدبــر
إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلاهادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ,وبعد :
يقول ابن القيم وتدبر الكلام: (أن ينظر في أوله وآخره ثم يعيد نظره مرة بعد مرة ولهذا جآء على بناء التفعل كالتجرع , التفهم , والتبين )
( إِنَّ التدبُّر هو التأمُّل؛ لفهم المعنى، يُقال:" تدبّرت الشيءَ ": تفكّرت في عاقبته، وتأملته، ثم استعمل في كل تأمّل،
والتدبير: أَنْ يدبِّر الإنسان أمْرَه،كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته) (فتح القدير 491/1)
النظر في عواقبِ الأمور، والتفكُّر في أدبارها، ثم استعمل في كل تفكُّرٍ وتأمّلٍ،ويقال: (تدبرت الشيءَ) أي: نظرت في عاقبته،
ومعنى تدبّر القرآنِ: تأَمُّل معانيه، والتفكّر في حِكَمِهِ، وتبصّر ما فيه من الآيات". (لباب التأويل في معاني التنزيل"402/1)
يآأيها الناس اسمعوا نداء رب الناس للناس
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا" النساء )) النساء
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ) يونس
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ )) يونس
في هذه الآيات الثلاث فقط تأتي الأوصاف العظام بأنه هو البرهان , النور , الموعظة , الشفاء , الهدى , الرحمة الحق
فهذه رسالة أوجهها لكل قارئ للقرآن يلتمس فيه الحياة والهداية والعلم لمن أراد أن يكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته فأعظم مايحدثه الإقبال على القرآن هو حياة
القلب وصلاحه وأعظم داء يصاب المعرض عن القرآن هو موت القلب وقسوته
ولذا قصرت الذكرى على من كان له قلب أو اجتهد في إحضار قلبه مع القرآن كما قال تعالى:
( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) سورة ق
الأصل في خطاب القرآن أنه موجه إلى القلب فالقب أمره جلل وهو سر من أسرار الله في الأرض كما قال القائل :
للقلب سر ليس يعـرف قدره ... إلا الذي أتــاه للإنسان
ففي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد كله ألا وهي القلب )
وقد وُصفت قراءة الفضيل بن عياض رحمه الله: بأنها كانت قراءته للقرآن حزينة شهية بطيئة مترسلة كأنه يخاطب إنساناً
وفي مرسل الحسن رضي الله عنه قال:
علم في القلب فذاك العلم النافع
وعلم على اللسان فتلك حجة الله على خلقه
وهناك أمور شرعت من أجل تدبر القرآن والتأثروهي :
أ_ إنزال القرآن والتعبد به فقد قال الله تعالى:
(( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ )) سورة ص
ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله :
( ولهذا أنزل الله القرآن ليتدبر ويتفكر فيه ويعمل به لالمجرد التلاوة مع الإعراض عنه )
وقال أيضاً : ( تحديق ناظر القلب إلى معانيه وجمع الفكر على تدبره وتعقله هو المقصود من إنزاله لامجرد التلاوة بلا فهم ولاتدبر)
ب_ سلامة التلاوة وإتقان التجويد
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة )) صحيح مسلم
وكونه ماهر به يشمل إتقانه للحفظ الترتيل والتغني بالقرآن وتحسينه
لقوله تعالى: ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ) سورة المزمل
ولقوله صلى الله عليه وسلم:( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) صحيح البخاري
وقال ابن كثير:( المطلوب شرعاً هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والإنقياد والطاعة )
ج_ الإنصات عند سماع القرآن
قال تعالى: (( وَ اِذَا قُرِأَ القُرْآنْ فَاسْتَمِعِوا لَهْ وَ اْنصِتوْا لَعَلكُمْ تُرْحَمُون ))
قال الشوكاني رحمه الله : أمرهم الله سبحانه بالإستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته لينتفعوا به ويتدبروا مافيه من الحكم والمصالح
وهنا قصص سأذكرها عن التدبر:
في الدر المنثور عند تفسير قوله تعالى:
(أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء) سورة الأعراف
أن عبدالله بن عمر رضي الله عنه شرب ماء بارد فبكى فاشتد بكاؤه فقيل له مايبكيك ؟
قال: ذكرت آية في كتاب الله :
( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) سورة سبأ
فعرفت أن أهل النار لايشتهون إلا الماء البارد
وقد قال الله تعالى:
(أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ)
تدبر أحد السلف في مثل من أمثال القرآن فبكى : فسُـئل ما يبكيك ؟ قال :
إن الله عزوجل يقول :{ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } العنكبوت
أي : هذه الأمثال نضربها في القرآن للناس : (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) وأنا ما عقلت المثل ،
فلست بعالم ، فأبكي على ضياع العلم مني ..
وقال معمر : صلى إلى جنبي سليمان التميمي رحمه الله بعد العشاء الآخرة فسمعته يقرأ في صلاته :
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} حتى أتى على هذه الآية
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا }
فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا ، ثم خرجت إلى بيتي ، فما رجعت إلى المسجد لأؤذن الفجر
فإذا سليمان التميمي في مكانه كما تركته البارحة !!
وهو واقف يردد هذه الآية لم يجاوزها ( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا )
وقد أبان الله تعالى عن الحكمة من إنزال القرآن فقال:
( كَتابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) سورة ص
واللام في قوله: ( ليدبروا ) هي لام العلة فهو لن يكون مباركاً مباركة تامة إلا بالتدبر
وقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم من يتلو القرآن ولم يتدبر ويتفكر بقلبه
فثبت عن ابن حبان في صحيحه وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد أنزلت علي الليلة آية , ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ )
الروابط المفضلة